الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم والله يعلم ما تسرون وما تعلنون والذين [ ص: 339 ] يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون

"علامات" نصب على المصدر، أي: فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها، وعلامات، أي عبرة وإعلاما في كل سلوك، فقد يهتدى بالجبال والأنهار والسبل، واختلف الناس في معنى قوله: "وعلامات" على أن الأظهر عندي ما ذكرت -فقال ابن الكلبي: العلامات: الجبال، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد : العلامات: النجوم، منها ما سمي علامات، ومنها ما يهتدى بها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: العلامات: معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية الليل.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

والصواب -إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله- أن اللفظة تعم هذا وغيره، وذلك أن كل ما دل على شيء وعلم به فهو علامة، وأحسن الأقوال المذكورة قول ابن عباس رضي الله عنهما لأنه عموم في المعنى فتأمله، وحدثني أبي رحمه الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول: إن في بحر الهند الذي يجري فيه من اليمن إلى الهند حيتانا طوالا رقاقا كالحيات في ألوانها وحركتها والتوائها، وأنها تسمى العلامات، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلاد الهند، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته، وأن بعض الناس قال: إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية، قال أبي رضي الله عنه: وأنا ممن شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها، فحدثني منهم عدد كثير.

وقرأ الجمهور: "وبالنجم" على أنه اسم الجنس، وقرأ يحيى بن وثاب: "وبالنجم" بضم النون وإسكان الجيم على التخفيف من ضمها، وقرأ الحسن بضمها، وذلك جمع، كسقف وسقف، ورهن ورهن، ويحتمل أن يراد به النجوم، فحذفت الواو.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا عندي توجيه ضعيف.

[ ص: 340 ] وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان، وقال غيره: المراد القطب الذي لا يجري، وقال قوم غير هذا، وقال قوم: هو اسم الجنس، وهذا هو الصواب.

ثم قررهم تعالى على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك، وعبر عن الأصنام بـ "من" لوجهين: أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله، وقد عبدت طوائف ممن تقع عليه العبارة بـ "من"، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها من أن لها تأثيرا وأفعالا، ثم وبخهم بقوله: أفلا تذكرون .

وقوله تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، أي: إن حاولتم إحصاءها عددا حتى لا يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك، ولا اتفق لكم إحصاؤها; إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم، و "النعمة" هنا مفردة يراد بها الجمع، وبحسب العجز عن عدد نعم الله تبارك وتعالى يلزم أن يكون الشاكر لها مقصرا عن بعضها، فلذلك قال عز وجل: إن الله لغفور رحيم أي تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري ، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد: "الحمد لله رب العالمين" مع شرطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها؟ والمخاطبة: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها عامة لجميع الناس.

وقوله: والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ، متصل بما قبله، أي: إن الله لغفور في تقصيركم عن شكر ما لا تحصونه من نعم الله، وإن الله تعالى يعلم سركم وعلنكم، فيغني ذلك عن التزامكم بشكر كل نعمة، هذا على قراءة من قرأ: "تسرون" بالتاء مخاطبة للمؤمنين، فإن جمهور القراء قرأ: "تسرون" بالتاء من فوق، "وتعلنون" و "تدعون" كذلك، وهي قراءة الأعرج ، وشيبة ، وأبي جعفر ، ومجاهد ، على [ ص: 341 ] معنى: قل يا محمد للكفار. وقرأ عاصم : "تسرون" و "تعلنون" بالتاء من فوق، و "يدعون" بالياء من تحت على غيبة الكفار، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن. وروى هبيرة عن حفص عن عاصم كل ذلك بالياء على غيبة الكفار، وروي عن الكسائي، وأبي بكر عن عاصم كل ذلك بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله: "يعلم الذي تبدون وما تكتمون" و"تدعون" بالتاء من فوق في الثلاثة. وقرأ طلحة: "ما تخفون وما تعلنون" و"تدعون" بالتاء من فوق في الثلاثة. و "يدعون" معناه: يدعونه إلها، وعبر عن الأصنام بـ "الذين" على ما قدمناه من أن ذلك يعم الأصنام ومن عبد من دون الله و من غيرها.

وقوله تعالى: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أجمع عبارة في أحوال الربوبية عنهم، وقرأ محمد اليماني: "والذين يدعون" بضم الياء وفتح العين على ما لم يسم فاعله.

و"أموات" يراد به الذين يدعون من دون الله، ورفع على ابتداء خبر مضمر تقديره: هم أموات، ويجوز أن يكون خبرا لقوله: "والذين" بعد خبر في قوله: "لا يخلقون"، ووصفهم بالموت مجازا، وإنما المراد لم يقبلوا حياة قط ولا اتصفوا بها، وعلى قراءة من قرأ: "والذين يدعون" بالياء على غيبة الكفار يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في "يدعون"، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين، ويستقيم -على هذا- فيهم قوله: وما يشعرون أيان يبعثون والبعث هنا هو الحشر من القبور. و"أيان" ظرف زمان مبني، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: "إيان" بكسر الهمزة، والفتح فيها والكسر لغتان، وقالت فرقة: وما يشعرون أي الكفار أيان يبعثون الضميران لهم، وقالت فرقة: وما يشعرون أي الأصنام أيان يبعث الكفار، ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام الأمارة، كما تقول: "بعثت النائم من نومه" إذا نبهته، وكما تقول: "بعث الرامي سهمه"، فكأنه وصفهم بغاية الجمود، أي: وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك، وعلى تأويل من يرى الضميرين للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد، أي: وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم لا يشعرون وأيان يبعثون طائل; لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث. وذكر [ ص: 342 ] بعض المفسرين أن قوله: أيان يبعثون ظرف لقوله: إلهكم إله واحد ، وأن الكلام تم في قوله: وما يشعرون ، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد، و في هذا توعد.

التالي السابق


الخدمات العلمية