الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 293 ] فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث [ ص: 294 ] [ ص: 295 ] والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، بل فيها في الصحيح والسنن ما يدل على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون لازمة لكل من أوقعها.

مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم.

وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكور في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان يفتي بموجبه كما قد ذكر في غير هذا الموضع .

والمقصود هنا حديث ركانة ، فإنه قد احتج به غير واحد من أهل العلم على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت إلا واحدة؟ قال: ما أردت إلا واحدة. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة .

وحديث ركانة هذا قد ضعفه طائفة كأحمد وأبي عبيد وابن حزم، [ ص: 296 ] مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه . وقال الشافعي : عمي ثقة، وعبد الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عجير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر الذي رواه أيضا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يوجب حسن الحديث، فإنهما إسنادان ليس فيهما متهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يعرف لقاء بعضهم بعضا، كما سيأتي بيانه.

وفي الجملة لو لم يعارضه غيره لأمكن أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يقدم الراجح. وقد يقال: إنه لم يعارضه غيره. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد روي فيه أنه طلقها ثلاثا. فأما إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافا، بل في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ذلك.

قال أبو داود في السنن : باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن الآية [ ص: 297 ] وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك، فقال: الطلاق مرتان الآية.

قلت: هذا مروي عن عائشة وغير واحد من السلف . ثم ذكر أبو داود حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق ، أبنا ابن جريج، أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاث من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم.

وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقول من قال: إن هذا الحديث منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لما كان الطلاق بغير طلاق.

وهذا من جملة ما حمل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورا بثلاث، بل كان إذا طلقها أكثر من ثلاث راجعها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثا مفترقات، كل واحدة بعد رجعة أو عقد جديد، له أن يراجعها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون الثلاث تجعل واحدة فهذا حكم غير الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تجعل الثلاث فيه واحدة، ولا كان الطلاق مقصورا على ثلاث، بل الثلاث والخمس والعشر والواحدة كانت فيه سواء.

ثم إن ذلك المنسوخ لم يعمل به بعد نسخه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 298 ] ولا أبي بكر ولا خلافة عمر، بل قد نزل القرآن بأنها بعد الثالثة تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل نسخه صريحا في القرآن، ولا ظهر أمره كظهور الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجل المرأة الطلقة الثالثة بعد ثنتين مما تكرر وقوعه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفتيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهب مع علي إلى اليمن ، وكان هذا في آخر الأمر قريبا من حجة الوداع. وكذلك امرأة رفاعة القرظي تميمة بنت وهب، لما طلقها رفاعة، فأبت طلاقها بالثلاث، ونكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله العود إلى رفاعة، فقال: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" .

وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غير وجه، وهذا بخلاف سر المتعة. فلو كان أحد يمسك امرأته بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما يظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حرمت تركها من علم التحريم، ومن لم يعلمه فعلها قليل منهم وهي تفعل سرا. ولم ينقل أحد أن أحدا بعد النسخ أمسك امرأته بعد ثلاث تطليقات، كل طلقة بعد رجعة أو عقد، ولا أنه طلق بغير عدد، مع [ ص: 299 ] أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغير عدد آثار قليلة خفية لا يعلمها جمهور الناس، ولم يرو أهل الصحيح منها شيئا، وإنما رواها طائفة من أهل السنن والتفسير والفقه.

التالي السابق


الخدمات العلمية