الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون .

                                                                                                                                                                                                                                      فويل : هو وأمثاله؛ من "ويح"؛ و"ويس"؛ و"ويب"؛ و"ويه"؛ و"ويك"؛ و"عول"؛ من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها؛ لا يجوز إظهارها البتة؛ فإن أضيف نصب؛ نحو: "ويلك"؛ و"ويحك"؛ وإذا فصل عن الإضافة رفع؛ نحو: "ويل له"؛ ومعنى "الويل": شدة الشر؛ قاله الخليل؛ وقال الأصمعي: الويل: التفجع؛ والويح: الترحم؛ وقال سيبويه: "ويل": لمن وقع في الهلكة؛ و"ويح": زجر لمن أشرف على الهلاك. وقيل: الويل: الحزن. وهل "ويح"؛ و"ويب"؛ و"ويس"؛ بذلك المعنى؛ أو بينه وبينها فارق؟ وقيل: "ويل" في الدعاء عليه؛ و"ويح" وما بعده في الترحم عليه؛ وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الويل: العذاب الأليم"؛ وعن سفيان الثوري أنه صديد أهل جهنم؛ وروى أبو سعيد الخدري - رضي الله (تعالى) عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الويل واد في جهنم؛ يهوي فيه الكافر أربعين خريفا؛ قبل أن يبلغ قعره"؛ وقال سعيد بن المسيب: "إنه واد في جهنم؛ لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره"؛ وقال ابن بريدة: "جبل قيح ودم"؛ وقيل: صهريج في جهنم؛ وحكى الزهراوي أنه باب من أبواب جهنم؛ وعلى كل حال فهو مبتدأ؛ خبره قوله - عز وعلا -: للذين يكتبون الكتاب ؛ أي المحرف؛ أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة؛ بأيديهم : تأكيد لدفع توهم المجاز؛ كقولك: كتبته بيميني؛ ثم يقولون هذا ؛ أي: جميعا؛ على الأول؛ وبخصوصه؛ على الثاني؛ من عند الله ؛ روي أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم؛ وزوال رياستهم؛ حين قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ فاحتالوا في تعويق أسافل اليهود عن الإيمان؛ فعمدوا إلى صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة؛ وكانت هي فيها: "حسن الوجه؛ حسن الشعر؛ أكحل العينين؛ ربعة"؛ فغيروها؛ وكتبوا مكانها: "طوال؛ أزرق؛ سبط الشعر"؛ فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرؤوا عليهم ما كتبوا؛ فيجدونه مخالفا لصفته - عليه الصلاة والسلام -؛ فيكذبونه. و"ثم" للتراخي الرتبي؛ فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله - سبحانه - صريحا أشد شناعة من نفس التحريف؛ والتأويل؛ ليشتروا به ؛ أي: يأخذوا لأنفسهم بمقابلته؛ ثمنا ؛ هو ما أخذوه من الرشى؛ بمقابلة ما فعلوا من التحريف؛ والتأويل؛ وإنما عبر عن المشترى؛ الذي هو المقصود بالذات في عقد المعاوضة؛ بالثمن الذي هو وسيلة فيه؛ إيذانا بتعكيسهم؛ حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة؛ والوسيلة مقصودا بالذات؛ قليلا : لا يعبأ به؛ فإن ذلك - وإن جل في نفسه - فهو أقل قليلا عند ما استوجبوا به من العذاب الخالد.

                                                                                                                                                                                                                                      فويل لهم : تكرير لما سبق للتأكيد؛ وتصريح بتعليله بما قدمت أيديهم؛ بعد الإشعار به؛ فيما سلف؛ بإيراد بعضه في حيز الصلة؛ وبعضه في معرض الغرض؛ والفاء للإيذان بترتبه عليه؛ و"من" في قوله - عز وجل -: مما كتبت أيديهم : تعليلية؛ متعلقة بـ "ويل"؛ أو بالاستقرار في الخبر؛ و"ما" موصولة اسمية؛ والعائد محذوف؛ أي: كتبته؛ أو مصدرية؛ والأول أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف؛ والثاني في الزجر عن التحريف؛ وويل لهم مما يكسبون : الكلام فيه كالذي فيما قبله؛ والتكرير لما مر من التأكيد؛ والتشديد؛ والقصد إلى التعليل بكل من الجنايتين؛ وعدم التعرض لقولهم: "هذا من عند الله"؛ لما أنه من مبادي ترويج ما كتبت أيديهم؛ فهو [ ص: 121 ] داخل في التعليل به.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية