الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا

"ظلم" في هذه الآية بمعنى: كفر، ثم توعد الكافرين بتعذيبه إياهم قبل عذاب الله، وعقب لهم بذكر عذاب الله لأن تعذيب ذي القرنين هو اللاحق عندهم، المحبوس لهم، الأقرب نكاية. فلما جاء وعد المؤمنين قدم تنعيم الله تعالى الذي هو الأحق عن المؤمنين، والآخر بإزائه حقير، ثم عقب أخيرا بذكر إحسانه في قول اليسر، وجعله قولا إذ الأفعال كلها خلق الله تعالى، فكأنه سلمها ولم يراع تكسبه.

وقرأت فرقة: "نكرا" بضم الكاف، وقرأت فرقة: "نكرا" بسكون الكاف، ومعناه: المنكر الذي تنكره الأوهام لعظمه وتستهويه. وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وعاصم -في رواية أبي بكر - وأبو عمرو، وابن عامر : "جزاء الحسنى" بإضافة الجزاء إلى الحسنى، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يريد بـ "الحسنى" الجنة، والجنة هي الجزاء، فأضاف [ ص: 657 ] ذلك، كما قال: ولدار الآخرة والآخرة هي الدار، والثاني أن يريد بـ "الحسنى" أعمالهم الصالحة في إيمانهم، فوعدهم بجزاء الأعمال الصالحة. وقرأ حمزة ، الكسائي، وحفص عن عاصم : "جزاء الحسنى" بنصب "الجزاء" على المصدر في موضع الحال. و "الحسنى" ابتداء، وخبره في المجرور، ويراد بها الجنة، وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق: "جزاء" بالرفع والتنوين "الحسنى"، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما، ومسروق: "جزاء" بالنصب بغير تنوين "الحسنى" بالإضافة. قال المهدوي : ويجوز حذف النون لالتقاء الساكنين، ووعدهم بذلك بأنه ييسر عليهم أمور دنياهم. وقرأ ابن القعقاع: "يسرا" بضم السين.

وقوله تعالى: ثم أتبع سببا ، المعنى: ثم سلك ذو القرنين الطرق المؤدية إلى مقصده، فهي سبب الوصول، فكان ذو القرنين -على ما وقع في كتب التاريخ- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، والإعداد الموفى، والحزم المستيقظ المتقد، والتأييد المتواصل، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة ولا مر بمدينة إلا دانت له ودخلت في طاعته، وكل من عارضه وتوقف عن أمره جعله عظة وآية لغيره، وله في هذا المعنى أخبار كثيرة، وغرائب كرهت التطويل بها لأنها علم تاريخ. وقرأ الجمهور "مطلع" بكسر اللام، وقرأ الحسن بخلاف-، وابن كثير ، وأهل مكة : "مطلع" بفتح اللام.

و "القوم": الزنج، قاله قتادة ، وهم الهنود وما وراءهم.

وقال الناس في قوله: لم نجعل لهم من دونها سترا معناه: إنهم ليس لهم بنيان، إذ لا تحمل أرضهم البناء، وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب، وقيل: يدخلون في ماء البحر، قاله الحسن ، وقتادة ، وابن جريج . وكثر النقاش وغيره في هذا المعنى، والظاهر من الألفاظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، وفعلها بقدرة الله تبارك وتعالى فيهم، ونيلها منهم، ولو كان لهم أسراب تغني لكان سترا كثيفا، وإنما هم في [ ص: 658 ] قبضة القدرة سواء كان لهم أسراب أو دور أو لم يكن، ألا ترى أن الستر عندنا بحق إنما هو من السحاب والغمام وبرد الهواء، ولو سلط الله علينا الشمس لأحرقتنا، فسبحان المنفرد بالقدرة التامة.

وقوله: "كذلك" معناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، فأوجز بقوله: "كذلك". ثم أخبر الله تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين، وما تصرف من أفعاله، ويحتمل أن يكون "كذلك" استئناف قول، ولا يكون راجعا على الطائفة الأولى، فتأمله، والأول أصوب.

التالي السابق


الخدمات العلمية