الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 394 ] [ ص: 395 ] [ ص: 396 ] [ ص: 397 ] الباب الثالث :

          في تعظيم أمره ، ووجوب توقيره ، وبره

          الفصل الأول : ما ورد في ذلك

          قال الله - تعالى - : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ الفتح : 8 - 9 ] .

          وقال : ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ الحجرات : 1 ] .

          و : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي [ الحجرات : 2 ] الثلاث الآيات ، وقال تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ النور : 63 ] .

          فأوجب الله - تعالى - تعزيره ، وتوقيره ، وألزم إكرامه ، وتعظيمه .

          قال ابن عباس : تعزروه : تجلوه . وقال المبرد : تعزروه : تبالغوا في تعظيمه .

          وقال الأخفش : تنصرونه . وقال الطبري : تعينونه .

          وقرئ : تعززوه بزاءين من العز .

          ونهي عن التقدم بين يديه بالقول ، وسوء الأدب بسبقه بالكلام ، على قول ابن عباس ، وغيره ، وهو اختيار ثعلب .

          قال سهل بن عبد الله : لا تقولوا قبل أن يقول ، وإذا قال فاستمعوا له ، وأنصتوا .

          ونهوا عن التقدم ، والتعجل بقضاء أمر قبل قضائه فيه ، وأن يفتاتوا بشيء في ذلك من قتال ، أو غيره من أمر دينهم ، ولا يسبقوه به .

          وإلى هذا يرجع قول الحسين ، ومجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والثوري .

          ثم وعظهم ، وحذرهم مخالفة ذلك ، فقال : واتقوا الله إن الله سميع عليم [ الحجرات : 1 ] .

          قال الماوردي : اتقوه ، يعني في التقدم .

          وقال السلمي : اتقوا الله في إهمال حقه ، وتضييع حرمته ، إنه سميع لقولكم ، عليم بفعلكم .

          ثم نهاهم عن رفع الصوت فوق صوته ، والجهر له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ، ويرفع صوته .

          وقيل : كما ينادي بعضهم بعضا باسمه .

          قال أبو محمد مكي : أي لا تسابقوه بالكلام ، وتغلظوا له بالخطاب ، ولا تنادوه باسمه نداء بعضكم [ ص: 398 ] لبعض ، ولكن عظموه ، ووقروه ، ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى به : يا رسول الله ، يا نبي الله .

          وهذا كقوله في الآية الأخرى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ النور : 63 ] على أحد التأويلين .

          وقال غيره : لا تخاطبوه إلا مستفهمين .

          ثم خوفهم الله - تعالى - بحبط أعمالهم إن هم فعلوا ذلك ، وحذرهم منه .

          وقيل : نزلت الآية في وفد بني تميم ، وقيل : في غيرهم ، أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فنادوه : يا محمد ، يا محمد ، اخرج إلينا . فذمهم الله - تعالى - بالجهل ، ووصفهم بأن أكثرهم لا يعقلون .

          وقيل : نزلت الآية الأولى في محاورة كانت بين أبي بكر ، وعمر بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واختلاف جرى بينهما ، حتى ارتفعت أصواتهما .

          وقيل : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مفاخرة بني تميم ، وكان في أذنيه صمم ، فكان يرفع صوته ، فلما نزلت هذه الآية أقام في منزله ، وخشي أن يكون حبط عمله ، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، لقد خشيت أن أكون هلكت ، نهانا الله أن نجهر بالقول ، وأنا امرؤ جهير الصوت .

          فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا ثابت ، أما ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ ! فقتل يوم اليمامة .

          وروي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : والله يا رسول الله ، لا أكلمك بعدها إلا كأخي السرار .

          وأن عمر كان إذا حدثه حدثه كأخي السرار ، ما كان يسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، فأنزل الله - تعالى - فيهم : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ الحجرات : 3 ] .

          وقيل : نزلت : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات [ الحجرات : 4 ] في غير بني تميم ، نادوه باسمه :

          وروى صفوان بن عسال : بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر إذا ناداه أعرابي بصوت له جهوري : أيا محمد . قلنا له : اغضض من صوتك ، فإنك قد نهيت عن رفع الصوت .

          وقال الله - تعالى - : [ ص: 399 ] ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .

          قال بعض المفسرين : هي لغة كانت في الأنصار ، نهوا عن قولها تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتبجيلا له ، لأن معناها : ارعنا نرعك ، فنهوا عن قولها ، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، بل حقه أن يرعى على كل حال .

          وقيل : كانت اليهود تعرض بها للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعونة ، فنهي المسلمون عن قولها قطعا للذريعة ، ومنعا للتشبيه بهم في قولها ، لمشاركة اللفظة ، وقيل غير هذا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية