الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما ، فإن زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ) . وكان إذا أعجله السير أخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء في وقت العشاء .

وقد روي عنه في غزوة تبوك أنه كان إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر ، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر فيصليهما جميعا ، وكذلك في المغرب والعشاء ، لكن اختلف في هذا الحديث ، فمن مصحح له ، ومن محسن ، ومن قادح فيه ، وجعله موضوعا كالحاكم ، وإسناده على شرط الصحيح ، لكن رمي بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن [ ص: 460 ] تزيغ الشمس ، أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ويصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب )

قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ، ثم لا نعرف له علة نعله بها . فلو كان الحديث عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به الحديث . ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولا ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ، ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ .

وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول لنا : على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ، ثم قال : فنظرنا فإذا الحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون ، ثم ذكر بإسناده إلى البخاري . قال : قلت لقتيبة بن سعيد : مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ؟ قال : كتبته مع خالد بن القاسم أبي الهيثم المدائني . قال البخاري : وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ .

قلت : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، فإن أبا داود رواه عن [ ص: 461 ] يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره . . . " فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجل من المفضل وأحفظ ، لكن زال تفرد قتيبة به ، ثم إن قتيبة صرح بالسماع فقال : حدثنا ولم يعنعن ، فكيف يقدح في سماعه ، مع أنه بالمكان الذي جعله الله به من الأمانة ، والحفظ ، والثقة ، والعدالة .

وقد روى إسحاق بن راهويه : حدثنا شبابة ، حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ، ثم ارتحل ) . وهذا إسناد كما ترى ، وشبابة : هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه ، وقد روى له مسلم في " صحيحه " عن الليث بن سعد بهذا الإسناد على شرط الشيخين ، وأقل درجاته أن يكون مقويا لحديث معاذ وأصله في " الصحيحين " لكن ليس فيه جمع التقديم .

ثم قال أبو داود : وروى هشام ، عن عروة ، عن حسين بن عبد الله ، عن كريب ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، نحو حديث المفضل ، يعني حديث معاذ في الجمع والتقديم ، ولفظه عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن كريب ، عن ابن عباس ، أنه قال : ألا أخبركم عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في السفر ؟ كان إذا زالت الشمس وهو في منزله ، جمع بين الظهر والعصر في الزوال ، وإذا سافر [ ص: 462 ] قبل أن تزول الشمس ، أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر ، قال : وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك ، ورواه الشافعي من حديث ابن أبي يحيى ، عن حسين ، ومن حديث ابن عجلان بلاغا عن حسين .

قال البيهقي : هكذا رواه الأكابر ، هشام بن عروة وغيره ، عن حسين بن عبد الله . ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن حسين ، عن عكرمة ، وعن كريب كلاهما ، عن ابن عباس ، ورواه أيوب ، عن أبي قلابة ، عن ابن عباس ، قال : ولا أعلمه إلا مرفوعا .

وقال إسماعيل بن إسحاق : حدثنا إسماعيل بن أبي إدريس ، قال : حدثني أخي ، عن سليمان بن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جد به السير فراح قبل أن تزيغ الشمس ركب فسار ثم نزل ، فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا لم يرح حتى تزيغ الشمس جمع بين الظهر والعصر ، ثم ركب ، وإذا أراد أن يركب ودخلت صلاة المغرب ، جمع بين المغرب وبين صلاة العشاء )

قال أبو العباس بن سريج : روى يحيى بن عبد الحميد ، عن أبي خالد الأحمر ، عن الحجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يرتحل حتى تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ، فإذا لم تزغ أخرها حتى يجمع بينهما في وقت العصر )

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ، ليتصل وقت الدعاء ، ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .

قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر لأن يتصل له الدعاء ، فلا يقطعه بصلاة العصر ، وأرفق بالمزدلفة أن يتصل له المسير ، ولا يقطعه بالنزول [ ص: 463 ] للمغرب ؛ لما في ذلك من التضييق على الناس . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية