الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        النوع الثالث :

                        أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب . ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون ، إذ لو كان كيف كان يكون، فمعلومات الله لا تتناهى . ومعلومات العبد متناهية . والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى .

                        [ ص: 832 ] وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا ، وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا ، فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال ، بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه ، بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص ، سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ، وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه .

                        وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

                        قسم ضروري لا يمكن التشكيك فيه ، كعلم الإنسان بوجوده ، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الضدين لا يجتمعان .

                        وقسم لا يعلمه ألبتة، إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به ، وذلك كعلم المغيبات عنه ، كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا ، كعلمه بما تحت رجليه ، إلا أنه مغيب عنه تحت الأرض بمقدار شبر . وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد . فضلا عن علمه بما في السماوات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل . فعلمه لما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن .

                        وقسم نظري يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به - وهي [ ص: 833 ] النظريات - وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها . إلا أن يعلم بها إخبارا .

                        وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار . فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها ، لأنه لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأنها حقائق في أنفسها . فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا - كما هو معلوم في الأصول - وإنما المصيب فيها واحد . وهو لا يتعين إلا بالدليل .

                        وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر . فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة . والآخر شبهة ولا يعين . فلابد من إخبار بالتعيين .

                        ولا يقال : إن هذا قول الإمامية : لأنا نقول : بل هو يلزم الجميع ، فإن القول بالمعصوم غير النبي صلى الله عليه وسلم يفتقر إلى دليل ، لأنه لم ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر .

                        فالقول بإثباته نظري ، فهو مما وقع الخلاف فيه . فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف ؟ هذا لا يمكن .

                        فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة . وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلنتحاشها .

                        ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة - أعني القائلين بالتشريع العقلي - أن منه نظريا ، ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر ، وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار ، فلابد فيه [ ص: 834 ] من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه ، وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه ، فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلا ، فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له ، وعندهم أنه لابد من حكم ، فلأجل ذلك نقول : لابد من الافتقار إلى الخبر ، وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع . فإن قالوا : بل هو مستقل ، لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف - كما هو مذهب بعضهم - أو بأنه على الحظر أو الإباحة - كما ذهب إليه آخرون .

                        فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل ، وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا ، لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا . قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق ، لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض ، وإذا ثبت الافتقار في صورة ، ثبت مطلقا ، إذ ما وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ، وما لم يقف فيه فإنه نظري : فيرجع إلى ما تقدم في النظر ، وقد مر أنه لابد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار .

                        وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إليه أن المسألة نظرية فلابد من الإخبار ، وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له .

                        فإن قالوا : فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الاستقلال . قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار ، لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر ، [ ص: 835 ] أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا ، فهو إذا محتاج إليه ، ولابد للعقل من التنبيه من خارج . وهي فائدة بعث الرسل ، فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان ، وقبح الكذب أيضا والكفران ، معلوم ضرورة ، وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك . وأمر بهذا ونهى عن ذلك .

                        فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فائدة فيه ، لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه . هذا وجه .

                        ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه ، فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها ، لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه ، وعلى حال دون حال ، والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات ، فإنهم وضعوا أحكاما على العباد بمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ، بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرها بالشرع تنكرها ، وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق ، مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ، ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة ، لكنها بالنسبة إلى ما يصيبوا فيه قليلة، فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار ، وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولله الحجة البالغة ، والنعمة السابغة .

                        فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما - لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل ، وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك [ ص: 836 ] قبل ذلك ، كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ، ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ، ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ، ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية ، وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال ألبتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع - إن كانت شرعية - لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها ألبتة ، ولا قصور ولا نقص ، بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات ، وهي من الحكمة .

                        ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم - كما تقدم - إلى البديهي الضروري وغيره، إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة ، إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لابد في تحصيلها من توسيط مقدمتين معترف بهما ، فإن كانتا ضروريتين فذاك ، وإن كانت مكتسبتين فلابد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين ، وينظر فيهما كما تقدم ، وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلابد للمكتسبة من مقدمتين ، فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب ، وإلا لزم التسلسل أو الدور ، وكلاهما محال ، فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري .

                        وحاصل الأمر أنه لابد من معرفتها بمقدمتين، حصلت لنا كل واحدة منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة ، كالألم واللذة أو بديهي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد ، وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار ، فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار ، وأما ما ليس بمعتاد فقبل [ ص: 837 ] النبوات لم يتقدم لنا به معرفة ، فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا ، وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا ، وما أشبه ذلك ، لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى .

                        فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقدها سحرا أو غير ذلك ، كقلب العصا ثعبانا ، وفرق البحر ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ونبع الماء من بين أصابع اليد ، وتكليم الحجر والشجر ، وانشقاق القمر ، إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها ، بل يمكن أن تتخلف ، كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم ، كما خرج من العدم إلى الوجود .

                        فمجاري العادات إذا يمكن عقلا تخلفها . إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ، ولذلك لم يدع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ، ولا تحدى أحدا بكون الاثنين أكثر من الواحد ، مع أن الجميع فعل الله تعالى . وهو متفق عليه بين أهل الإسلام . وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمه والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك ، أمكن في جميع الممكنات ، لأن ما وجب للشيء وجب لمثله .

                        وأيضا ، فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا ، [ ص: 838 ] فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد ، وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد ، وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد ، وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض أنه لا يأكل ولا يشرب أبد الدهر غير معتاد ، وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد ، وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل ، وكون الخمر لا تسكر غير معتاد ، وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائما لا يمتلئ ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا أرفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد ، وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد .

                        وكذلك إذا نظرت أهل النار - عياذا بالله - وجدت من ذلك كثيرا ، ككون النار لا تأتي عليه حتى يموت ، كما قال تعالى : لا يموت فيها ولا يحيا وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها ، كلها خارق للعادة .

                        فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية ، وإنما هي وضعية يمكن تخلفها . وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقر بها بعضهم . وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير معتاد .

                        واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :

                        قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام [ ص: 839 ] من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه . فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : أفلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها . ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى . قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : أفليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء ، قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني . قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد . انتهى المقصود من الخبر .

                        وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد ، وهو تنزل للمنكر غير لازم ، ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات .

                        فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخراقه، مع أن كون العادي عاديا مطردا غير صحيح أيضا ، فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ، إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها، والعقل لا يفرق بين خلق وخلق ، فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ، ولذلك قال بعض المحققين من أهل [ ص: 840 ] الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر .

                        فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :

                        أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق ، وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع ، بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم - وهو الشرع - ويؤخر ما حقه التأخير - وهو نظر العقل - لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل ، لأنه خلاف المعقول والمنقول ، بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ، ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك ، تنبيها على تقدم الشرع على العقل .

                        والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق العادة الجارية المعتادة ، فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار بإطلاق ، بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه . وهو ظاهر قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعني الواضح المحكم ، والمتشابه المجمل ، إذ لا يلزمه العلم به ، ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته ، وإلا كان تكليفا بما لا يطاق . وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر ، لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه .

                        [ ص: 841 ] وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصف الباري بها نفسه ، لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين ، وهذا منفي عند الجمهور ، فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها ، فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه ، والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد .

                        فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة ، كقوله :

                        رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ، فإن الجميع أنكروا ظاهره ، إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة ، وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة ، وتأولوا الكلام .

                        قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول ، وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ، كما نقول : إن الصراط ثابت ، والجواز عليه قد أخبر الشارع به ، فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه ؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار ، والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد ، فإن فرقوا صار ذلك تحكما . لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي ، وقد صادفهم النقل ، فالحق الإقرار دون الإنكار .

                        ولنشرح هذا المطلب بأمثلة عشرة : ( أحدها ) مسألة الصراط وقد تقدمت

                        [ ص: 842 ] والثاني : مسألة الميزان ، إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة ، وتوزن فيه الأعمال على وجه غير عادي ، نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض - وهي الأعمال - لا توزن وزن الموزونات عندنا في العادات - وهي الأجسام ، ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه ، أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها . فالأخلق الحمل إما على التسليم ، وهذه طريقة الصحابة - رضي الله عنهم - ، إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن . كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان . فعليك به فهو مذهب الصحابة - رضي الله عنهم - .

                        فإن قيل : فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم ، فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة .

                        قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء : التسليم محضا، أو مع التأويل نظر لا يبعد : إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع ، بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها ؛ فإنه مخالف لهم . سلك في الأحاديث مسلك التأويل أولا، فالتأويل أو عدمه لا أثر له ؛ لأنه تابع على كلتا الطريقتين، لأن التسليم أسلم .

                        والثالث : مسألة عذاب القبر ، وهي أسهل . ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية . ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر [ ص: 843 ] على رؤيته كذلك ولا سماعه ، فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها . ولا نرى عليه من ذلك أثرا . وكذلك أهل الأمراض المؤلمة، وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها . فلماذا يجعل استبعاد العقل صادا في وجه التصديق بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

                        والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره ، فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا . وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره ، وإمكان خرق العوائد ، إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده ، أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول .

                        والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط ، وقراءته إياه وهو خلف ظهره، كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد، فيتصوره العقل على وجه منها .

                        والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والأشجار التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة .

                        والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة ، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا ، إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك ، والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة ، وهو إلى القصور في النظر أميل ، والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق .

                        والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام [ ص: 844 ] الملازم للصوت والحرف ، وهو في حق الباري محال ، ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب ، إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ، ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال ، فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا .

                        والتاسع : إثبات الصفات كالكلام ، إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى - على القول بإثباتها - فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها . وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات ، فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي من التركيب بالنسبة إلى صفات الباري ؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ، ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم .

                        والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى ، بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ، ويجب عليه الصلاح والأصلح ، ويجب عليه اللطف ، ويجب عليه كذا - إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء - وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم ، وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد . ومن أجل الباري وعظمه لم يجترئ على إطلاق هذه العبارة ، ولا ألم بمعناها في حقه ، لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد محصور ممنوع ، والله تعالى ما يمنعه شيء ، ولا يعارض أحكامه حكم ، فالواجب الوقوف مع قوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ ص: 845 ] وقوله تعالى : يفعل ما يشاء وقوله تعالى : إن الله يحكم ما يريد والله يحكم لا معقب لحكمه ذو العرش المجيد فعال لما يريد .

                        فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع ، فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله ، بل يكون ملبيا من وراء وراء .

                        ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة - رضي الله عنهم - وعليه دأبوا ، وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا . ودل على ذلك من سيرهم أشياء :

                        منها : أنه لم ينكر أحد منهم ما جاء من ذلك ، بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال . ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية ، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك ، دل على أنهم آمنوا به وأقروه ، كما جاء من غير بحث ولا نظر .

                        كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ، نحو الكلام في رأي جهم والقدر ، وكل ما أشبه ذلك . [ ص: 846 ] ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل . فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلي ، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل .

                        قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده - يعني العلماء منهم ، وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه ، وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر - قال - والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى ، وإنما خالف في ذلك أهل البدع - وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله . إلا أن يضطر أحد إلى الكلام ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه ، وخشي ضلالة عامة ، أو نحو هذا .

                        وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام ، لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه .

                        وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل .

                        ( وقال ) عن الحسن بن زياد اللؤلئي - وقال له رجل في زفر بن [ ص: 847 ] الهذيل - أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم - همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم .

                        وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم .

                        وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ، ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن ، وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس ، يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله ، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك ، وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله كراهية لذلك : ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم .

                        وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : اتقوا الله في دينكم . قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه ، [ ص: 848 ] وخرج ابن وهب عن عمر أيضا : إن أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياهم . قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع . وهو القائل في قصيدته في السنة :


                        ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرح



                        وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق ، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا .

                        وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل . وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن ، إن السنن قوام الدين ، وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .

                        فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى الله عليه وسلم .

                        وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد . كرأي جهم وغيره من أهل الكلام . لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث . فقالوا : لا يجوز أن [ ص: 849 ] يرى الله في الآخرة لأنه تعالى يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الآية .

                        فردوا قوله عليه الصلاة والسلام : إنكم ترون ربكم يوم القيامة وتأولوا قول الله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره . لقول الله تعالى : أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته ، وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها ، وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ، ولا نعقل ما هذا . وردوا السنن في ذلك كله - برأيهم وقياسهم - إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري ، وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم ، فرارا من قدم العالم - في زعمهم - .

                        وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع . وهذا القول أعم من الأول ، لأن الأول خاص بالاعتقاد ، وهذا عام في العمليات وغيرها .

                        وقال آخرون - قال ابن عبد البر : وهم الجمهور - إن المراد به [ ص: 850 ] القول في الشرع بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات ، ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها .

                        وهذا القول غير خارج عما تقدم . وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم . وهو معارضة المنصوص . لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي . فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة . فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد . وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن . إما قصدا أو غلطا وجهلا ، والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة .

                        فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم ، علموا معناه أو جهلوه ، جرى لهم على معهودهم أو لا ، وهو المطلوب من نقله ، وليعتبر فيه من قدم الناقص - وهو العقل - على الكامل - وهو الشرع - ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله ، وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه ، لا تتكلف ، فإن الله يقول لنبيه : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين .

                        وعن معمر بن سليمان ، عن جعفر ، عن رجل من علماء أهل المدينة ، [ ص: 851 ] قال : إن الله علم علما علمه العباد ، وعلم علما لم يعلمه العباد ، فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا . قال : والقدر منه .

                        وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك ، و الأوزاعي ، و سفيان بن سعيد ، و سفيان بن عيينة ، و معمر بن راشد ، في الأحاديث في الصفات أنهم أمروها كما جاءت . . . . نحو حديث النزول، وخلق آدم على صورته ، وشبههما، وحديثمالك في السؤال عن الاستواء مشهور .

                        وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة الآية . ثم قال : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فإنها صريحة في هذا الذي قررناه ، فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه ، فالوقوف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه ، لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه . كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين ! .

                        [ ص: 852 ] وروي أن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم ، فإنهم - ورب الكعبة - على الهدى المستقيم .

                        وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ، فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ، ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا .

                        وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنها خلالا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم .

                        والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال ، وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : ما أنا عليه وأصحابي .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية