الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 791 ] وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

                                                                                                                                                                                                                                        لما أراد الله تعالى أن يخرج يوسف من السجن أرى الله الملك هذه الرؤيا العجيبة ، التي تأويلها يتناول جميع الأمة ؛ ليكون تأويلها على يديوسف ، فيظهر من فضله ويبين من علمه ما يكون له رفعة في الدارين ، ومن التقادير المناسبة أن الملك الذي ترجع إليه أمور الرعية هو الذي رآها ؛ لارتباط مصالحها به ، وذلك أنه رأى رؤيا هالته ، فجمع لها علماء قومه وذوي الرأي منهم وقال :

                                                                                                                                                                                                                                        (43 إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع أي : سبع من البقرات عجاف : وهذا من العجب أن السبع العجاف الهزيلات اللاتي سقطت قوتهن يأكلن السبع السمان التي كن نهاية في القوة . ( و ) رأيت " سبع سنبلات خضر " يأكلهن سبع سنبلات يابسات ؛ يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي : لأن تعبير الجميع واحد ، وتأويله شيء واحد . إن كنتم للرؤيا تعبرون .

                                                                                                                                                                                                                                        (44 ) فتحيروا ، ولم يعرفوا لها وجها ؛ و قالوا أضغاث أحلام أي : أحلام لا حاصل لها ولا لها تأويل . وهذا جزم منهم بما لا يعلمون وتعذر منهم بما ليس بعذر . ثم قالوا : وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين أي : لا نعبر إلا الرؤيا ، وأما الأحلام التي هي من الشيطان ، أو من حديث النفس ، فإنا لا نعبرها . فجمعوا بين الجهل والجزم ، بأنها أضغاث أحلام ، والإعجاب بالنفس ، بحيث إنهم لم يقولوا : لا نعلم تأويلها ! وهذا من الأمور التي لا تنبغي لأهل الدين والحجا ، وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام . فإنه لو عبرها ابتداء - قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم فيعجزوا عنها ؛ لم يكن لها ذلك الموقع ، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب ، وكان الملك مهتما لها غاية ، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 792 ] وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم ، بعد أن سألهم فلم يعلموا ، ثم سأل آدم ، فعلمهم أسماء كل شيء ، فحصل بذلك زيادة فضله ، وكما يظهر فضل أفضل خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في القيامة ، أن يلهم الله الخلق أن يتشفعوا بآدم ، ثم بنوح ، ثم إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم السلام ، فيعتذرون عنها ، ثم يأتون محمدا صلى الله عليه وسلم ، فيقول : "أنا لها أنا لها" فيشفع في جميع الخلق ، وينال ذلك المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون ، فسبحان من خفيت ألطافه ، ودقت في إيصاله البر والإحسان ، إلى خواص أصفيائه وأوليائه .

                                                                                                                                                                                                                                        (45 وقال الذي نجا منهما أي : من الفتيين ، وهو : الذي رأى أنه يعصر خمرا ، وهو الذي أوصاه يوسف أن يذكره عند ربه وادكر بعد أمة أي : وتذكر يوسف وما جرى له في تعبيره لرؤياهما وما وصاه به ، وعلم أنه كفيل بتعبير هذه الرؤيا بعد مدة من السنين ، فقال : أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى يوسف لأسأله عنها .

                                                                                                                                                                                                                                        (46 ) فأرسلوه ، فجاء إليه ، ولم يعنفه يوسف على نسيانه ، بل استمع ما يسأله عنه ، وأجابه عن ذلك ، فقال : يوسف أيها الصديق أي : كثير الصدق في أقواله وأفعاله . أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون : فإنهم متشوقون لتعبيرها ، وقد أهمتهم .

                                                                                                                                                                                                                                        (47 ) فعبر يوسف السبع البقرات السمان والسبع السنبلات الخضر بأنهن سبع سنين مخصبات ، والسبع البقرات العجاف ، والسبع السنبلات اليابسات بأنهن سنين مجدبات ، ولعل وجه ذلك - والله أعلم - أن الخصب والجدب لما كان الحرث مبنيا عليه ، وأنه إذا حصل الخصب قويت الزروع والحروث وحسن منظرها وكثرت غلالها ، والجدب بالعكس من ذلك ، وكانت البقر هي التي تحرث عليها الأرض ، وتسقى عليها الحروث في الغالب ، والسنبلات هي أعظم الأقوات وأفضلها ؛ عبرها بذلك لوجود المناسبة ، فجمع لهم في تأويلها بين التعبير والإشارة لما يفعلونه ، ويستعدون به من التدبير في سني الخصب ، إلى سني الجدب، فقال : تزرعون سبع سنين دأبا أي : متتابعات ، فما حصدتم من تلك الزروع فذروه أي : [ ص: 793 ] اتركوه في سنبله : لأنه أبقى له وأبعد من الالتفات إليه إلا قليلا مما تأكلون أي : دبروا أيضا أكلكم في هذه السنين الخصبة ، وليكن قليلا ليكثر ما تدخرون ويعظم نفعه ووقعه .

                                                                                                                                                                                                                                        (48 ثم يأتي من بعد ذلك أي : بعد تلك السنين السبع المخصبات . سبع شداد أي : مجدبات جدا يأكلن ما قدمتم لهن أي : يأكلن جميع ما ادخرتموه ولو كان كثيرا ، إلا قليلا مما تحصنون أي : تمنعونه من التقديم لهن .

                                                                                                                                                                                                                                        (49 ثم يأتي من بعد ذلك أي : بعد السبع الشداد عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي : فيه تكثر الأمطار والسيول ، وتكثر الغلات ، وتزيد على أقواتهم حتى إنهم يعصرون العنب ونحوه زيادة على أكلهم ، ولعل استدلاله على وجود هذا العام الخصب مع أنه غير مصرح به في رؤيا الملك ؛ لأنه فهم من التقدير بالسبع الشداد أن العام الذي يليها يزول به شدتها ، ومن المعلوم أنه لا يزول الجدب المستمر سبع سنين متواليات إلا بعام مخصب جدا ؛ وإلا لما كان للتقدير فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                        فلما رجع الرسول إلى الملك والناس ، وأخبرهم بتأويل يوسف للرؤيا ؛ عجبوا من ذلك ، وفرحوا بها أشد الفرح .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية