الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت : وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين ، وكأن المراد بهذا - إن صح عنه - راجع إلى المحكي عن الأصوليين .

ولكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم، ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة.

[ ص: 879 ]

التالي السابق


[ ص: 879 ] 140 - قوله: (وقد روينا عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد الصحابي إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين ) قال: (وكأن المراد بهذا - إن صح عنه - راجع إلى المحكي عن الأصوليين . ولكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة: جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم، ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة) انتهى.

وفيه أمران:

أحدهما: أن المصنف علق القول بصحة ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو لا يصح عنه؛ فإن في الإسناد إليه محمد بن عمر الواقدي، وهو ضعيف في الحديث.

[ ص: 880 ] الأمر الثاني: أنه اعترض على المصنف بأن في (الأوسط) للطبراني أن جريرا أسلم في أول البعثة.

وكأن المعترض أوقعه في ذلك ما رواه الطبراني من رواية قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: "لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته لأبايعه، فقال: لأي شيء جئت يا جرير؟ قلت: جئت لأسلم على يديك. قال: فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: فألقى إلي كساء، ثم أقبل على أصحابه فقال: إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه" وهو في (الكبير) أيضا.

والجواب عنه أن هذا الحديث غير صحيح؛ فإنه من رواية الحصين بن [ ص: 881 ] [ ص: 882 ] عمر الأحمسي، وهو منكر الحديث كما قاله البخاري، وضعفه أيضا أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وغيرهم.

ولو كان صحيحا لما كان فيه تقدم إسلامه؛ لأنه لا تلزم الفورية في جواب (لما) ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض لتأخير الدلالة على الموت بزمن طويل.

والصواب أن جريرا متأخر الإسلام؛ فقد ثبت في الصحيحين عن إبراهيم [ ص: 883 ] النخعي أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وللبخاري عن إبراهيم أن جريرا كان من آخر من أسلم.

وعند أبي داود أيضا من حديث جرير أنه قال: "ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" وإنما يريد بذلك أنه بعد نزول قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية، وإلا فقد نزل بعض المائدة بعد إسلام جرير، كما سيأتي، ولكن لا يلزم من هذا أنه لم يقم معه سنة؛ فإن نزول الآية كان في غزوة (المريسيع) على المشهور، وكانت في سنة ست [ ص: 884 ] والمعروف أن إسلامه بدون سنة من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر البخاري في (التاريخ الكبير) عن إبراهيم، عن جرير "وكان أتى النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه" وكذا قال الواقدي: "كان إسلامه في السنة التي توفي فيها النبي صلى الله عليه وسلم" وهي سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان منها، وكذا قال ابن حبان في الصحابة: "إن إسلامه كان في سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان".

وأما ما جزم به ابن عبد البر في (الاستيعاب) أن جريرا قال: "أسلمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما" فهذا لا يصح عن جرير، ويرده ما ثبت في [ ص: 885 ] الصحيح من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: "استنصت الناس" الحديث، فكان إسلامه قبل حجة الوداع في شهر رمضان على المشهور.

فما استشكله المصنف على قول سعيد بن المسيب في أمر جرير واضح لو صح عنه، ولكنه لم يصح عنه. والله أعلم.




الخدمات العلمية