الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المطلب السادس: الشرط السادس: أن لا يتضمن الوقف ترك واجب

        وفيه مسألتان:

        المسألة الأولى: وقف ما يجب من نفقة، ونحوها:

        من وقف ما يضر بمن تلزمه نفقته من الزوجات، والأقارب، كما لو وقف البيت الذي يسكنه مسجدا، أو رباطا لطلاب العلم، فإنه يأثم لتقديمه النفل على الواجب، ولما يأتي من الأدلة:

        قال ابن عابدين: « الصدقة تستحب بفاضل عن كفايته، وكفاية من يمونه، وإن تصدق بما ينقص مؤنة من يمونه أثم »، والوقف من الصدقة. [ ص: 385 ]

        ويقول الشيرازي: « لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقه عياله »، والوقف من الصدقة.

        ويقول: « ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه; لأنه حق واجب، فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله ».

        وقال الماوردي: « أما صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكوات والكفارات، وقبل الإنفاق على من تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات، فغير مستحبة ولا مختارة ».

        ويقول ابن قدامة: « فإن تصدق بما ينقص من كفاية من تلزمه مؤنته ولا كسب له، أثم ».

        وقال ابن الرفعة: « إذا كان محتاجا لما يتصدق به لنفسه، أو لنفقة عياله، أو لقضاء ديون عليه لا يرجو وفاءه فتصدق بالمال أو وهبه أو وقفه أو أعتقه، ففي صحة ذلك الوجهان في هبة المال في الوقت، والصحيح عدم الصحة، فإنه يريد أن يتحايل على أهل الديون، وأن يضيع من يعول، وكفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول ». [ ص: 386 ]

        ويقول المرداوي: « وإن تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته أثم، وكذا لو أضر ذلك بنفسه أو بغريمه أو بكفايته، قاله الأصحاب »، والوقف من الصدقة.

        أما إن كانت الصدقة تنقص من كفاية المتصدق نفسه، ولا صبر له على الضيق، فإنه يكره له الصدقة في هذه الحالة، فإن أضر بنفسه حرم عليه التصدق.

        صرح بهذا فقهاء الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        وقال ابن حزم: « ولا تنفذ هبة ولا صدقة لأحد إلا فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقى لنفسه وعياله بعده فسخ كله ».

        والدليل على ذلك:

        1 - قوله تعالى: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين 2 - قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .

        (109 ) 3 - ما رواه مسلم من طريق خيثمة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ...قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته ». [ ص: 387 ]

        (110 ) 4 - وما رواه مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: « ألك مال غيره؟ » فقال: لا، فقال: « من يشتريه مني؟ »، فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه، ثم قال: « ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ».

        (111 ) 5 - ما رواه البخاري من طريق أبي صالح قال: حدثني أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول »، تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني، إلى من تدعني؟ » فقالوا: يا أبا هريرة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال : لا ، هذا من كيس أبي هريرة.

        (112 ) 6 - ما رواه البخاري من طريق عروة ومسلم - واللفظ له - من طريق موسى بن طلحة أن حكيم بن حزام حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أفضل الصدقة أو خير الصدقة عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ».

        قال الخطابي: « وابدأ بمن تعول » أي: لا تضيع عيالك، وتفضل على غيرك ». [ ص: 388 ]

        وقال ابن حجر: « وابدأ بمن تعول » أي: بمن يجب عليك نفقته... وهو أمر بتقديم ما يجب على ما لا يجب.

        وقد بوب البخاري على هذا الحديث وغيره: « باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو رد عليه، ليس له أن يتلف أموال الناس ».

        التالي السابق


        الخدمات العلمية