الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المسألة الثالثة: بيان الحيازة المعتبرة:

        اختلف العلماء القائلون باشتراط الحيازة لصحة الوقف في بيان الحيازة المعتبرة على قولين:

        القول الأول: أن الحيازة المعتبرة تكون بالتسليم إلى الناظر، فإن لم يكن فالحاكم إذا كانت على جهة خاصة، أو عامة لها ناظر معين.

        وبه قال من اشترط الحيازة من الحنفية، والحنابلة.

        فإن كان على جهات عامة وليس لها ناظر معين، فاختلف من قال باشتراط الحيازة من الحنفية، والحنابلة بم تحصل الحيازة؟

        فذهب من قال به من الحنابلة: إلى أن المقصود يحصل بالتخلية بين الناس وبينها.

        ولذلك قال الحارثي: « وبالجملة فالمساجد، والقناطر، والآبار ونحوها يكفي التخلية بين الناس وبينها ». [ ص: 511 ]

        وذهب الحنفية : أنها لا تحصل إلا بمباشرة الانتفاع منه.

        فذكر السرخسي: « أن من جعل أرضا له مقبرة للمسلمين وأذن لهم أن يقبروا فيها ففعلوا فليس له الرجوع، وقال: فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها يقبرون فيها إنسانا واحدا أو أكثر أن يرجع فيها؛ لأن التسليم - على من يشترط التسليم - يتم بهذا، فإن المقصود قد حصل إذا قبروا فيها إنسانا واحدا، وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين، وخلى بينهم وبينها فدخلها بإذنه رجل واحد أو أكثر، فلا سبيل له بعد ذلك عليها ؛ لأن التسليم يتم بهذا ».

        وقال الطرابلسي: « تسليم كل شيء عند محمد بما يليق به، ففي المقبرة يحصل بدفن واحد فصاعدا بإذنه، وفي السقاية بشرب واحد، وفي الخان بنزول واحد من المارة ».

        الأدلة:

        حجة الحنفية على أن الحيازة إذا لم يكن ناظر لا يتحقق إلا بمباشرة الانتفاع من واحد:

        1 - أنه إذا كان ناظر فالقبض يكون بالتسليم له، كقبض المشتري السلعة.

        2 - أنه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين، ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة ؛ للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق.

        (155) 3 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق إبراهيم التيمي قال : حدثني أبي قال : خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفيه قول الرسول [ ص: 512 ] صلى الله عليه وسلم: « ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ».

        وجه الدلالة: القياس على أمان الواحد من المسلمين، فأمان الواحد من المسلمين كأمان الجماعة.

        وحجة الحنابلة أنه إذا لم يكن ناظر، وكان على جهة عامة يكون القبض بالتخلية : أن قبض مثل هذه الأشياء يكون بالتخلية عرفا.

        القول الثاني: أن الحيازة المعتبرة تكون بمضي عام على إثبات يد القيم على العين المحبسة، أو رفع يد المحبس عنها وتخليته بينها وبين الناس.

        وهذا قول المالكية:

        وقيدوا المدة بعام؛ لأنها هي المدة التي يقع بها الاشتهار - على حد قولهم.

        والحيازة عندهم على نوعين:

        أحدهما : الحيازة الحسية :

        وهي ما كانت الحيازة فيها حقيقة، بحيث تكون العين مقبوضة من قبل الموقوف عليه يستولي عليها، ويستبد بها، ويخرجها عن تحكم الواقف فيها. [ ص: 513 ]

        الثاني: الحيازة الحكمية:

        وهي أن يكون الوقف لا يزال تحت رعاية الواقف ولم ترفع يده عن العين الموقوفة رفعا تاما، وإنما يبقى له شيء من التسلط على تلك العين.

        وذلك كأن يكون الموقوف عليه محجورا عليه لصغر، أو سفه تحت ولاية الواقف سواء كان الواقف أبا أو وصية أو مقاما من الحاكم، فإن حيازة كل واحد من هؤلاء حيازة حكمية؛ إذ إن رفع يد الواقف عن العين الموقوفة تشوبها ولايته على الموقوف عليه، وبالتالي حيازتها عنه.

        أو أن يكون الموقوف عليه أمرا عاما يكفي في حيازته الإخلاء بينه وبين الناس كالمسجد والمدرسة والرباط والبئر، فالإخلاء في هذه حوز حكمي.

        ويشترط لصحة الحيازة الحكمية شروط هي:

        1 - أن يشهد الواقف على الحبس قبل حصول المانع، ولابد من معاينة البينة لذلك الإشهاد، فلا يكفي إقرار الواقف؛ لأن المنازع للموقوف عليه إما الورثة وإما الغرماء.

        2 - أن يصرف الواقف الغلة كلها أو جلها في مصالح المحجور عليه الواقع تحت ولايته.

        3 - أن لا تكون العين الموقوفة مشغولة بمصالح الواقف من سكنى أو لبس أو ركوب أو نحوه.

        ويبطل الوقف عند المالكية: بحصول مانع للواقف قبل الحيازة.

        فإذا لم يحزه الموقوف عليه حيازة حسية أو حكمية حتى حصل للواقف [ ص: 514 ] مانع من موت أو فلس، أو مرض متصل بموته بطل الوقف ورجع للغريم في الفلس وللوارث في الموت إن لم يجزه الوارث و إلا نفذ.

        وكذا يبطل إذا عاد الواقف لانتفاعه بما وقفه قبل عام بعد الحيازة سواء كان الوقف على محجوره، أو على غيره، وسواء عاد بكراء أو إرفاق؛ أي: سواء بعوض أو بغير عوض.

        وإن كان العود بعد عام، فلا يخلو الوقف من أن يكون على غير محجوره أو على محجوره.

        فإن كان على غير محجوره، فلا يبطل الوقف إذا كان العود بعد عام سواء كان بكراء أو إرفاق.

        وإن كان على محجوره، فإما أن يكون العود بإرفاق، وإما يكون بكراء، فإن كان العود بعوض وأشهد على ذلك ففيه خلاف:

        فالمشهور في المذهب المالكي - والذي عليه العمل - أن الوقف نافذ فلا يبطل.

        وقال ابن رشد: بالبطلان إذا عاد لما حبس على محجوره ولو بعد أعوام.

        هذا الحكم ثابت في الأعيان الموقوفة التي لها غلة كالدار والحانوت والحمام والدابة ونحوها.

        وأما بالنسبة للأعيان التي لا غلة لها ككتب العلم والسلاح ونحوها، فإنه متى ما صرفه الواقف قبل عوده له في مصرفه - بأن حيز عنه لمن يقرأ فيه بالنسبة للكتاب، أو لمن يقاتل به بالنسبة للسلاح؛ فإنه لا يبطل الوقف بالمانع إذا عاد الوقف ليد الواقف قبل عام، ومن باب أولى بعد العام.

        * * * [ ص: 515 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية