الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الأوزاعي ( ع )

                                                                                      عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد ، شيخ الإسلام ، وعالم أهل الشام ، أبو عمرو الأوزاعي .

                                                                                      كان يسكن بمحلة الأوزاع ، وهي العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق ، ثم تحول إلى بيروت مرابطا بها إلى أن مات .

                                                                                      وقيل : كان مولده ببعلبك . [ ص: 108 ]

                                                                                      حدث عن : عطاء بن أبي رباح ، وأبي جعفر الباقر ، وعمرو بن شعيب ، ومكحول ، وقتادة ، والقاسم بن مخيمرة ، وربيعة بن يزيد القصير ، وبلال بن سعد ، والزهري ، وعبدة بن أبي لبابة ، ويحيى بن أبي كثير ، وأبي كثير السحيمي اليمامي ، وحسان بن عطية ، إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، ومطعم بن المقدام ، وعمير بن هانئ العنسي ، ويونس بن ميسرة ومحمد بن إبراهيم التيمي ، وعبد الله بن عامر اليحصبي ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، والحارث بن يزيد الحضرمي .

                                                                                      وحفص بن عنان ، وسالم بن عبد الله المحاربي ، وسليمان بن حبيب المحاربي ، وشداد أبي عمار ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبد الواحد بن قيس ، وأبي النجاشي عطاء بن صهيب ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة بن خالد ، وعلقمة بن مرثد ، ومحمد بن سيرين ، وابن المنكدر ، وميمون بن مهران ، ونافع مولى ابن عمر ، والوليد بن هشام ، وخلق كثير من التابعين ، وغيرهم .

                                                                                      وكان مولده في حياة الصحابة .

                                                                                      روى عنه : ابن شهاب الزهري ، ويحيى بن أبي كثير - وهما من شيوخه - وشعبة ، والثوري ، ويونس بن يزيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ، ومالك ، وسعيد بن عبد العزيز ، وابن المبارك ، وأبو إسحاق الفزاري ، وإسماعيل بن عياش ، ويحيى بن حمزة القاضي ، وبقية بن الوليد ، والوليد بن مسلم ، والمعافى بن عمران ، ومحمد بن شعيب ، وشعيب بن إسحاق ، ويحيى القطان ، وعيسى بن يونس ، والهقل بن زياد ، ومحمد بن يوسف الفريابي ، وأبو المغيرة الحمصي ، وأبو عاصم النبيل ، ومحمد بن كثير المصيصي ، وعمرو بن عبد الواحد ، ويحيى البابلتي ، والوليد بن مزيد العذري ، وخلق كثير . [ ص: 109 ]

                                                                                      قال محمد بن سعد : الأوزاع بطن من همدان ، وهو من أنفسهم ، وكان ثقة . قال : وولد سنة ثمان وثمانين ، وكان خيرا ، فاضلا ، مأمونا كثير العلم والحديث والفقه ، حجة . توفي سنة سبع وخمسين ومائة . وأما البخاري فقال : لم يكن من الأوزاع بل نزل فيهم .

                                                                                      قال الهيثم بن خارجة : سمعت أصحابنا يقولون : ليس هو من الأوزاع ، هو ابن عم يحيى بن أبي عمرو السيباني لحا ، إنما كان ينزل قرية الأوزاع ، إذا خرجت من باب الفراديس .

                                                                                      قال ضمرة بن ربيعة : الأوزاع : اسم وقع على موضع مشهور بربض دمشق ، سمي بذلك ; لأنه سكنه بقايا من قبائل شتى ، والأوزاع : الفرق ، تقول : وزعته ، أي : فرقته .

                                                                                      قال أبو زرعة الدمشقي : اسم الأوزاعي : عبد العزيز بن عمرو بن أبي عمرو ، فسمى نفسه عبد الرحمن ، وكان أصله من سبي السند ، نزل في الأوزاع ، فغلب عليه ذلك ، وكان فقيه أهل الشام ، وكانت صنعته الكتابة والترسل ، ورسائله تؤثر .

                                                                                      قال أبو مسهر وطائفة : ولد سنة ثمان وثمانين ضمرة : سمعت الأوزاعي يقول : كنت محتلما ، أو شبيها بالمحتلم في خلافة عمر بن عبد العزيز . وشذ محمد بن شعيب ، عن الأوزاعي ، فقال : مولدي سنة ثلاث [ ص: 110 ] وتسعين فهذا خطأ .

                                                                                      قال الوليد بن مزيد : مولده ببعلبك ، ومنشؤه بالكرك - قرية بالبقاع - ثم نقلته أمه إلى بيروت .

                                                                                      قال العباس بن الوليد : فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا ، تعجبه من الأوزاعي . فكان يقول : سبحانك تفعل ما تشاء ! كان الأوزاعي يتيما فقيرا في حجر أمه ، تنقله من بلد إلى بلد ، وقد جرى حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته ، يا بني ، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه ، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه ، ولا رأيته ضاحكا قط حتى يقهقه ، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد ، أقول في نفسي : أترى في المجلس قلب لم يبك ؟ ! .

                                                                                      الفسوي : سمعت العباس بن الوليد بن مزيد ، عن شيوخهم ، قالوا : قال الأوزاعي : مات أبي وأنا صغير ، فذهبت ألعب مع الغلمان ، فمر بنا فلان - وذكر شيخا جليلا من العرب - ففر الصبيان حين رأوه ، وثبت أنا ، فقال : ابن من أنت ؟ فأخبرته . فقال : يا ابن أخي ، يرحم الله أباك . فذهب بي إلى بيته ، فكنت معه حتى بلغت ، فألحقني في الديوان ، وضرب علينا بعثا إلى اليمامة ، فلما قدمناها ، ودخلنا مسجد الجامع ، وخرجنا ، قال لي رجل من أصحابنا : رأيت يحيى بن أبي كثير معجبا بك ، يقول : ما رأيت في هذا البعث أهدى من هذا الشاب ! قال : فجالسته فكتبت عنه أربعة عشر كتابا ، أو ثلاثة عشر ، فاحترق كله . [ ص: 111 ]

                                                                                      ابن زبر : حدثنا الحسن بن جرير ، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد ، عن أبيه : أن الأوزاعي خرج في بعث اليمامة ، فأتى مسجدها ، فصلى ، وكان يحيى بن أبي كثير قريبا منه ، فجعل ينظر إلى صلاته ، فأعجبته ، ثم إنه جلس إليه ، وسأله عن بلده ، وغير ذلك ، فترك الأوزاعي الديوان ، وأقام عنده مدة يكتب عنه ، فقال له : ينبغي لك أن تبادر البصرة لعلك تدرك الحسن وابن سيرين ، فتأخذ عنهما . فانطلق إليهما ، فوجد الحسن قد مات ، وابن سيرين حيا ، فأخبرنا الأوزاعي : أنه دخل عليه فعاده ، ومكث أياما ومات ، ولم يسمع منه ، قال : كان به البطن .

                                                                                      قال محمد بن عبد الرحمن السلمي : رأيت الأوزاعي فوق الربعة ، خفيف اللحم ، به سمرة ، يخضب بالحناء .

                                                                                      محمد بن كثير : عن الأوزاعي ، قال : خرجت أريد الحسن ومحمدا ، فوجدت الحسن قد مات ، ووجدت ابن سيرين مريضا .

                                                                                      قال عبد الرزاق : أول من صنف ابن جريج ، وصنف الأوزاعي . أبو مسهر : حدثني الهقل ، قال : أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة ، أو نحوها .

                                                                                      قال إسماعيل بن عياش : سمعت الناس في سنة أربعين ومائة يقولون : الأوزاعي اليوم عالم الأمة . أخبرنا أبو مسهر ، حدثنا سعيد ، قال : الأوزاعي هو عالم أهل الشام . وسمعت محمد بن شعيب يقول : قلت لأمية بن يزيد : أين الأوزاعي من مكحول ؟ قال : هو عندنا أرفع من مكحول .

                                                                                      قلت : بلا ريب هو أوسع دائرة في العلم من مكحول . [ ص: 112 ] محمد بن شعيب ، قال : ثم قال أمية : كان قد جمع العبادة والعلم والقول بالحق . قال العباس بن الوليد البيروتي : حدثني رجل من ولد الأحنف بن قيس ، قال : بلغ الثوري ، وهو بمكة ، مقدم الأوزاعي ، فخرج حتى لقيه بذي طوى فلما لقيه ، حل رسن البعير من القطار ، فوضعه على رقبته ، فجعل يتخلل به ، فإذا مر بجماعة قال : الطريق للشيخ . روى نحوها المحدث سليمان بن أحمد الواسطي ، حدثنا عثمان بن عاصم . وروى شبيها بها إسحاق بن عباد الختلي عن أبيه : أن الثوري . . . بنحوها .

                                                                                      قال أحمد بن حنبل : دخل سفيان الثوري والأوزاعي على مالك ، فلما خرجا قال : أحدهما أكثر علما من صاحبه ، ولا يصلح للإمامة ، والآخر يصلح للإمامة - يعني الأوزاعي للإمامة . مسلمة بن ثابت : عن مالك ، قال : الأوزاعي إمام يقتدى به . الشاذكوني : سمعت ابن عيينة يقول : كان الأوزاعي والثوري بمنى ، فقال الأوزاعي للثوري : لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه ؟ . فقال : حدثنا يزيد بن أبي زياد . . . فقال الأوزاعي : روى لك الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعارضني بيزيد رجل ضعيف الحديث ، [ ص: 113 ] وحديثه مخالف للسنة ، فاحمر وجه سفيان . فقال الأوزاعي : كأنك كرهت ما قلت ؟ قال : نعم . فقال : قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحق . قال : فتبسم سفيان لما رآه قد احتد .

                                                                                      علي بن بكار : سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول : ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري ! . فأما الأوزاعي ، فكان رجل عامة ، وأما الثوري ، فكان رجل خاصة نفسه ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي - يريد الخلافة .

                                                                                      قال علي بن بكار : لو خيرت لهذه الأمة ، لاخترت لها أبا إسحاق الفزاري .

                                                                                      قال الخريبي : كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه .

                                                                                      وعن نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، قال : لو قيل لي : اختر لهذه الأمة ، لاخترت سفيان الثوري والأوزاعي ، ولو قيل لي : اختر أحدهما ، لاخترت الأوزاعي ; لأنه أرفق الرجلين . وكذا قال في هذا المعنى أبو أسامة .

                                                                                      قال عبد الرحمن بن مهدي : إنما الناس في زمانهم أربعة : حماد بن زيد بالبصرة ، والثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، والأوزاعي بالشام .

                                                                                      قال أحمد بن حنبل : حديث الأوزاعي عن يحيى مضطرب . الربيع المرادي : سمعت الشافعي يقول : ما رأيت رجلا أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي .

                                                                                      قال إبراهيم الحربي : سألت أحمد بن حنبل : ما تقول في مالك ؟ قال : حديث صحيح ، ورأي ضعيف . قلت : فالأوزاعي ؟ قال : حديث ضعيف ، ورأي ضعيف . قلت : فالشافعي ؟ قال : حديث صحيح ، ورأي صحيح . قلت : ففلان ؟ قال : لا رأي ولا حديث . [ ص: 114 ] قلت : يريد أن الأوزاعي حديثه ضعيف من كونه يحتج بالمقاطيع ، وبمراسيل أهل الشام ، وفي ذلك ضعف ، لا أن الإمام في نفسه ضعيف .

                                                                                      قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه . عمر بن عبد الواحد : عن الأوزاعي ، قال : دفع إلي الزهري صحيفة ، فقال : اروها عني . ودفع إلي يحيى بن أبي كثير صحيفة ، فقال : اروها عني . فقال ابن ذكوان : حدثنا الوليد قال : قال الأوزاعي : نعمل بها ، ولا نحدث بها - يعني الصحيفة .

                                                                                      قال الوليد : كان الأوزاعي يقول : كان هذا العلم كريما ، يتلاقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب ، دخل فيه غير أهله . وروى مثلها ابن المبارك ، عن الأوزاعي .

                                                                                      ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل ، ولا سيما في ذلك العصر ، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل ، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى ، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال ، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم ، بخلاف الرواية من كتاب محرر . محمد بن عوف : حدثنا هشام بن عمار : سمعت الوليد يقول : احترقت [ ص: 115 ] كتب الأوزاعي زمن الرجفة ثلاثة عشر قنداقا فأتاه رجل بنسخها ، فقال : يا أبا عمرو ، هذه نسخة كتابك ، وإصلاحك بيدك ، فما عرض لشيء منها حتى فارق الدنيا .

                                                                                      وقال بشر بن بكر التنيسي : قيل للأوزاعي : يا أبا عمرو ، الرجل يسمع الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه لحن ، أيقيمه على عربيته ؟ قال : نعم ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا بعربي . قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي يقول : لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث .

                                                                                      منصور بن أبي مزاحم ، عن أبي عبيد الله كاتب المنصور ، قال : كانت ترد على المنصور كتب من الأوزاعي نتعجب منها ، ويعجز كتابه عنها ، فكانت تنسخ في دفاتر ، وتوضع بين يدي المنصور ، فيكثر النظر فيها استحسانا لألفاظها ، فقال لسليمان بن مجالد - وكان من أحظى كتابه عنده - : ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه جوابا تاما . قال : والله يا أمير المؤمنين ، ما أحسن ذلك ، وإنما أرد عليه ما أحسن ، وإن له نظما في الكتب لا أظن أحدا من جميع الناس يقدر على إجابته عنه ، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق . [ ص: 116 ]

                                                                                      قلت : كان الأوزاعي مع براعته في العلم ، وتقدمه في العمل كما ترى رأسا في الترسل - رحمه الله .

                                                                                      الوليد بن مزيد : سئل الأوزاعي عن الخشوع في الصلاة ، قال : غض البصر ، وخفض الجناح ، ولين القلب ، وهو الحزن ، الخوف .

                                                                                      قال : وسئل الأوزاعي عن إمام ترك سجدة ساهيا حتى قام وتفرق الناس . قال : يسجد كل إنسان منهم سجدة وهم متفرقون .

                                                                                      وسمعت الأوزاعي يقول : وسألته : من الأبله ؟ قال : العمي عن الشر ، البصير بالخير . سليمان بن عبد الرحمن ، حدثنا الوليد ، سمعت الأوزاعي يقول : ما أخطأت يد الحاصد ، أو جنت يد القاطف ، فليس لصاحب الزرع عليه سبيل ، إنما هو للمارة وابن السبيل .

                                                                                      روى أبو مسهر ، عن سعيد بن عبد العزيز ، قال : ولي الأوزاعي القضاء ليزيد بن الوليد ، فجلس مجلسا ، ثم استعفى ، فأعفي ، وولى يزيد ابن أبي ليلى الغساني ، فلم يزل حتى قتل بالغوطة .

                                                                                      قال إسحاق بن راهويه : إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة .

                                                                                      قلت : بل السنة ما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون من بعده . والإجماع : هو ما أجمعت عليه علماء الأمة قديما وحديثا ; إجماعا ظنيا أو سكوتيا ، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم لقول باجتهاده احتمل له . فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة ، فلا يسمى [ ص: 117 ] مخالفا للإجماع ، ولا للسنة ، وإنما مراد إسحاق : أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالبا ، كما نقول اليوم : لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه ، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة ، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها .

                                                                                      ومن غرائب ما انفرد به الأوزاعي : أن الفخذ ليست في الحمام عورة ، وأنها في المسجد عورة . وله مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها ، وهي موجودة في الكتب الكبار ، وكان له مذهب مستقل مشهور ، عمل به فقهاء الشام مدة ، وفقهاء الأندلس ، ثم فني .

                                                                                      سليمان بن عبد الرحمن ، قال : قال عقبة بن علقمة البيروتي : أرادوا الأوزاعي على القضاء ، فامتنع وأبى ، فتركوه .

                                                                                      وقال الأوزاعي : من أكثر ذكر الموت ، كفاه اليسير ، ومن عرف أن منطقه من عمله ، قل كلامه .

                                                                                      أبو صالح كاتب الليث : عن الهقل بن زياد ، عن الأوزاعي : أنه وعظ ، فقال في موعظته : أيها الناس ، تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة ، التي تطلع على الأفئدة ، فإنكم في دار الثواء فيها قليل ، وأنتم مرتحلون وخلائف بعد القرون ، الذين استقالوا من الدنيا زهرتها كانوا أطول منكم أعمارا ، وأجد أجساما ، وأعظم آثارا ، فجددوا الجبال ، وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد ، مؤيدين ببطش شديد ، وأجسام كالعماد ، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مدتهم ، وعفت آثارهم ، وأخوت منازلهم ، وأنست ذكرهم ، فما تحس منهم من أحد ، ولا تسمع لهم [ ص: 118 ] ركزا . كانوا بلهو الأمل آمنين ، ولميقات يوم غافلين ، ولصباح قوم نادمين ، ثم إنكم قد علمتم ما نزل بساحتهم بياتا من عقوبة الله ، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين ، وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمه وزوال نعمه ، ومساكن خاوية ، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ، وعبرة لمن يخشى ، وأصبحتم في أجل منقوص ، ودنيا مقبوضة ، في زمان قد ولى عفوه ، وذهب رخاؤه ، فلم يبق منه إلا حمة شر ، وصبابة كدر ، وأهاويل غير ، وأرسال فتن ، ورذالة خلف .

                                                                                      الحكم بن موسى : حدثنا الوليد بن مسلم قال : ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعي حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام ، والأوزاعي إلى جنبه ، فقلت : يا رسول الله ، عمن أحمل العلم ؟ قال : عن هذا . وأشار إلى الأوزاعي .

                                                                                      قلت : كان الأوزاعي كبير الشأن .

                                                                                      قال عمرو بن أبي سلمة التنيسي : حدثنا الأوزاعي ، قال : رأيت كأن ملكين عرجا بي ، وأوقفاني بين يدي رب العزة ، فقال لي : أنت عبدي عبد الرحمن الذي تأمر بالمعروف ؟ فقلت : بعزتك أنت أعلم . قال : فهبطا بي حتى رداني إلى مكاني . رواها عبد الله بن أحمد ، عن الحسن بن عبد العزيز ، عنه .

                                                                                      العباس بن الوليد البيروتي : حدثنا عبد الحميد بن بكار ، عن محمد بن شعيب ، قال : جلست إلى شيخ في الجامع ، فقال : أنا ميت يوم كذا وكذا . [ ص: 119 ] فلما كان ذلك اليوم ، أتيته ، فإذا به يتفلى في الصحن ، فقال : ما أخذتم السرير ؟ - يعني النعش - خذوه قبل أن تسبقوا إليه . قلت : ما تقول - رحمك الله ؟ قال : هو الذي أقول لك ، رأيت في المنام كأن طائرا وقع على ركن من أركان هذه القبة ، فسمعته يقول : فلان قدري ، وفلان كذا ، وعثمان بن أبي العاتكة : نعم الرجل ، وعبد الرحمن الأوزاعي خير من يمشي على الأرض ، وأنت ميت يوم كذا وكذا ، قال : فما جاءت الظهر حتى مات ، وأخرج بجنازته .

                                                                                      قال الوليد بن مزيد : كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوي عليه ، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي .

                                                                                      قال مروان الطاطري : قال الأوزاعي : من أطال قيام الليل ، هون الله عليه وقوف يوم القيامة .

                                                                                      صفوان بن صالح ، قال : كان الوليد بن مسلم يقول : ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعي .

                                                                                      محمد بن سماعة الرملي : سمعت ضمرة بن ربيعة يقول : حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعا في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى القتب .

                                                                                      وعن سلمة بن سلام قال : نزل الأوزاعي على أبي ، ففرشنا له فراشا ، فأصبح على حاله ، ونزعت خفيه ، فإذا هو مبطن بثعلب .

                                                                                      قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا بشر بن المنذر ، قال : رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع .

                                                                                      ابن زبر : حدثنا إسحاق بن خالد ، سمعت أبا مسهر يقول : ما رئي [ ص: 120 ] الأوزاعي باكيا قط ، ولا ضاحكا حتى تبدو نواجذه ، وإنما كان يتبسم أحيانا ، كما روي في الحديث . وكان يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء . وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت ، أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي ، وتتفقد موضع مصلاه ، فتجده رطبا من دموعه في الليل .

                                                                                      أبو مسهر : حدثني محمد بن الأوزاعي قال : قال لي أبي : يا بني ، لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا ، لأوشك أن نهون عليهم .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية