الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 5 ] الإمام الشافعي ( خت ، 4 )

                                                                                      محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ، الإمام ، عالم العصر ، ناصر الحديث ، فقيه [ ص: 6 ] الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي ، الغزي المولد ، نسيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وابن عمه ، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب .

                                                                                      اتفق مولد الإمام بغزة ، ومات أبوه إدريس شابا ، فنشأ محمد يتيما في حجر أمه ، فخافت عليه الضيعة ، فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين ، فنشأ بمكة ، وأقبل على الرمي ، حتى فاق فيه الأقران ، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة ، ثم أقبل على العربية والشعر ، فبرع في ذلك وتقدم . ثم حبب إليه الفقه ، فساد أهل زمانه .

                                                                                      وأخذ العلم ببلده عن : مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة ، وداود بن عبد الرحمن العطار ، وعمه محمد بن علي بن شافع ، فهو ابن عم العباس جد الشافعي ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي ، وسعيد بن سالم ، وفضيل بن عياض ، وعدة . ولم أر له شيئا عن نافع بن عمر الجمحي ونحوه ، وكان معه بمكة .

                                                                                      وارتحل -وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهل للإمامة- إلى [ ص: 7 ] المدينة ، فحمل عن مالك بن أنس " الموطأ " عرضه من حفظه ، -وقيل : من حفظه لأكثره- وحمل عن : إبراهيم بن أبي يحيى فأكثر ، وعبد العزيز الدراوردي ، وعطاف بن خالد ، وإسماعيل بن جعفر ، وإبراهيم بن سعد وطبقتهم .

                                                                                      وأخذ باليمن عن : مطرف بن مازن ، وهشام بن يوسف القاضي ، وطائفة ، وببغداد عن : محمد بن الحسن ، فقيه العراق ، ولازمه ، وحمل عنه وقر بعير ، وعن إسماعيل ابن علية ، وعبد الوهاب الثقفي وخلق .

                                                                                      وصنف التصانيف ، ودون العلم ، ورد على الأئمة متبعا الأثر ، وصنف في أصول الفقه وفروعه ، وبعد صيته ، وتكاثر عليه الطلبة .

                                                                                      حدث عنه : الحميدي ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وأحمد بن حنبل ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو يعقوب يوسف البويطي ، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، وحرملة بن يحيى ، وموسى بن أبي الجارود المكي ، وعبد العزيز المكي صاحب " الحيدة " وحسين بن علي [ ص: 8 ] الكرابيسي ، وإبراهيم بن المنذر الحزامي ، والحسن بن محمد الزعفراني ، وأحمد بن محمد الأزرقي ، وأحمد بن سعيد الهمداني ، وأحمد بن أبي شريح الرازي ، وأحمد بن يحيى بن وزير المصري ، وأحمد بن عبد الرحمن الوهبي ، وابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي ، وإسحاق بن راهويه ، وإسحاق بن بهلول ، وأبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي المتكلم ، والحارث بن سريج النقال ، وحامد بن يحيى البلخي ، وسليمان بن داود المهري ، وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص ، وعلي بن معبد الرقي .

                                                                                      وعلي بن سلمة اللبقي ، وعمرو بن سواد ، وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني ، ومحمد بن يحيى العدني ، ومسعود بن سهل المصري ، وهارون بن سعيد الأيلي ، وأحمد بن سنان القطان ، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح ، ويونس بن عبد الأعلى ، والربيع بن سليمان المرادي ، والربيع بن سليمان الجيزي ، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، وبحر بن نصر الخولاني ، وخلق سواهم .

                                                                                      وقد أفرد الدارقطني كتاب من له رواية عن الشافعي في جزأين ، وصنف الكبار في مناقب هذا الإمام قديما وحديثا ونال بعض الناس [ ص: 9 ] منه غضا ، فما زاده ذلك إلا رفعة وجلالة ، ولاح للمنصفين أن كلام أقرانه فيه بهوى ، وقل من برز في الإمامة ورد على من خالفه إلا وعودي ، نعوذ بالله من الهوى ، وهذه الأوراق تضيق عن مناقب هذا السيد .

                                                                                      فأما جدهم السائب المطلبي ، فكان من كبراء من حضر بدرا مع الجاهلية ، فأسر يومئذ ، وكان يشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ، ووالدته هي الشفاء بنت أرقم بن نضلة ، ونضلة هو أخو عبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، فيقال : إنه بعد أن فدى نفسه ، أسلم .

                                                                                      وابنه شافع له رؤية ، وهو معدود في صغار الصحابة .

                                                                                      وولده عثمان تابعي ، لا أعلم له كبير رواية .

                                                                                      وكان أخوال الشافعي من الأزد .

                                                                                      عن ابن عبد الحكم قال : لما حملت والدة الشافعي به ، رأت كأن [ ص: 10 ] المشتري خرج من فرجها ، حتى انقض بمصر ، ثم وقع في كل بلدة منه شظية ، فتأوله المعبرون أنها تلد عالما ، يخص علمه أهل مصر ، ثم يتفرق في البلدان .

                                                                                      هذه رواية منقطعة .

                                                                                      وعن أبي عبد الله الشافعي ، فيما نقله ابن أبي حاتم ، عن ابن أخي ابن وهب عنه ، قال : ولدت باليمن -يعني القبيلة ، فإن أمه أزدية- قال : فخافت أمي علي الضيعة ، وقالت : الحق بأهلك ، فتكون مثلهم ، فإني أخاف عليك أن تغلب على نسبك ، فجهزتني إلى مكة ، فقدمتها يومئذ وأنا ابن عشر سنين ، فصرت إلى نسيب لي ، وجعلت أطلب العلم ، فيقول لي : لا تشتغل بهذا ، وأقبل على ما ينفعك ، فجعلت لذتي في العلم .

                                                                                      قال ابن أبي حاتم : سمعت عمرو بن سواد : قال لي الشافعي : ولدت بعسقلان ، فلما أتى علي سنتان ، حملتني أمي إلى مكة .

                                                                                      وقال ابن عبد الحكم : قال لي الشافعي : ولدت بغزة سنة خمسين ومائة وحملت إلى مكة ابن سنتين . [ ص: 11 ]

                                                                                      قال المزني : ما رأيت أحسن وجها من الشافعي -رحمه الله- وكان ربما قبض على لحيته فلا يفضل عن قبضته .

                                                                                      قال الربيع المؤذن : سمعت الشافعي يقول : كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي : أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر ، قال : وكنت أصيب من العشرة تسعة .

                                                                                      قال الحميدي : سمعت الشافعي يقول : كنت يتيما في حجر أمي ، ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم ، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب ، وأخفف عنه .

                                                                                      وعن الشافعي قال : كنت أكتب في الأكتاف والعظام ، وكنت أذهب إلى الديوان ، فأستوهب الظهور ، فأكتب فيها .

                                                                                      قال عمرو بن سواد : قال لي الشافعي : كانت نهمتي في الرمي وطلب العلم ، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة ، وسكت عن العلم ، فقلت : أنت والله في العلم أكبر منك في الرمي .

                                                                                      قال أحمد بن إبراهيم الطائي الأقطع : حدثنا المزني ، سمع الشافعي يقول : حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين ، وحفظت " الموطأ " وأنا ابن عشر . [ ص: 12 ]

                                                                                      الأقطع مجهول .

                                                                                      وفي " مناقب الشافعي " للآبري سمعت الزبير بن عبد الواحد الهمذاني ، أخبرنا علي بن محمد بن عيسى ، سمعت الربيع بن سليمان يقول : ولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة -رحمهما الله تعالى .

                                                                                      وعن الشافعي قال : أتيت مالكا وأنا ابن ثلاث عشرة سنة -كذا قال ، والظاهر أنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة - قال : فأتيت ابن عم لي والي المدينة ، فكلم مالكا ، فقال : اطلب من يقرأ لك . قلت : أنا أقرأ ، فقرأت عليه ، فكان ربما قال لي لشيء قد مر : أعده ، فأعيده حفظا ، فكأنه أعجبه ، ثم سألته عن مسألة ، فأجابني ، ثم أخرى ، فقال : أنت تحب أن تكون قاضيا .

                                                                                      ويروى عن الشافعي : أقمت في بطون العرب عشرين سنة ، آخذ أشعارها ولغاتها ، وحفظت القرآن ، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد [ ص: 13 ] علمت المعنى فيه والمراد ، ما خلا حرفين ، أحدهما : دساها .

                                                                                      إسنادها فيه مجهول .

                                                                                      قال ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : قرأت القرآن على إسماعيل بن قسطنطين ، وقال : قرأت على شبل ، وأخبر شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير ، وقرأ على مجاهد ، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس . قال الشافعي : وكان إسماعيل يقول : القرآن اسم ليس بمهموز ، ولم يؤخذ من : " قرأت " ولو أخذ من " قرأت " كان كل ما قرئ قرآنا ، ولكنه اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل . [ ص: 14 ]

                                                                                      الأصم وابن أبي حاتم : حدثنا الربيع : سمعت الشافعي يقول : قدمت على مالك ، وقد حفظت " الموطأ " ظاهرا ، فقلت : أريد سماعه ، قال : اطلب من يقرأ لك . فقلت : لا عليك أن تسمع قراءتي ، فإن سهل عليك قرأت لنفسي .

                                                                                      أحمد بن الحسن الحماني : حدثنا أبو عبيد ، قال : رأيت الشافعي عند محمد بن الحسن ، وقد دفع إليه خمسين دينارا ، وقد كان قبل ذلك دفع إليه خمسين درهما ، وقال : إن اشتهيت العلم ، فالزم . قال أبو عبيد : فسمعت الشافعي يقول : كتبت عن محمد وقر بعير ، ولما أعطاه محمد ، قال له : لا تحتشم . قال : لو كنت عندي ممن أحشمك ما قبلت برك .

                                                                                      ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان : سمعت الشافعي يقول : حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي . [ ص: 15 ]

                                                                                      قال أحمد بن أبي سريج : سمعت الشافعي يقول : قد أنفقت على كتب محمد ستين دينارا ، ثم تدبرتها ، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا -يعني : رد عليه .

                                                                                      قال هارون بن سعيد : قال لي الشافعي : أخذت اللبان سنة للحفظ ، فأعقبني صب الدم سنة .

                                                                                      قال أبو عبيد : ما رأيت أحدا أعقل من الشافعي ، وكذا قال يونس بن عبد الأعلى ، حتى إنه قال : لو جمعت أمة لوسعهم عقله .

                                                                                      قلت : هذا على سبيل المبالغة ، فإن الكامل العقل لو نقص من عقله نحو الربع ، لبان عليه نقص ما ، ولبقي له نظراء ، فلو ذهب نصف ذلك العقل منه ، لظهر عليه النقص ، فكيف به لو ذهب ثلثا عقله ! فلو أنك أخذت عقول ثلاثة أنفس مثلا ، وصيرتها عقل واحد ، لجاء منه كامل العقل وزيادة .

                                                                                      جماعة : حدثنا الربيع ، سمعت الحميدي ، سمعت مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي : أفت يا أبا عبد الله ، فقد والله آن لك أن تفتي - [ ص: 16 ] وهو ابن خمس عشرة سنة . وقد رواها محمد بن بشر الزنبري ، وأبو نعيم الإسترآباذي ، عن الربيع ، عن الحميدي قال : قال الزنجي . وهذا أشبه ، فإن الحميدي يصغر عن السماع من مسلم ، وما رأينا له في " مسنده " عنه رواية .

                                                                                      جماعة : حدثنا الربيع ، قال الشافعي : لأن يلقى الله العبد بكل ذنب إلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الأهواء .

                                                                                      الزبير الإسترآباذي : حدثني محمد بن يحيى بن آدم بمصر ، حدثنا ابن عبد الحكم ، سمعت الشافعي يقول : لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء ، لفروا منه كما يفرون من الأسد .

                                                                                      قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوما في مسألة ، ثم افترقنا ، ولقيني ، فأخذ بيدي ، ثم قال : يا أبا موسى ، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة . [ ص: 17 ]

                                                                                      قلت : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام ، وفقه نفسه ، فما زال النظراء يختلفون .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية