الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      سالم بن عبد الله ( ع )

                                                                                      ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، الإمام الزاهد ، الحافظ ، مفتي المدينة ، [ ص: 458 ] أبو عمر ، وأبو عبد الله ، القرشي ، العدوي ، المدني ، وأمه أم ولد . مولده في خلافة عثمان .

                                                                                      أخبرنا أحمد بن هبة الله سنة اثنتين وتسعين وستمائة ، أنبأنا أبو روح الهروي ، أنبأنا تميم الجرجاني ، أنبأنا أبو سعد الأديب ، أنبأنا أبو عمرو بن حمدان ، أنبأنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا حوثرة بن أشرس ، حدثنا عقبة بن أبي الصهباء - وسألت يحيى بن معين عنه فوثقه - عن سالم ، عن أبيه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح ، ثم استقبل مطلع الشمس ، فقال : ألا إن الفتن من هاهنا - ثلاث مرات - ومن ثم يطلع قرن الشيطان .

                                                                                      إسناده حسن عال ، ولا يقع لنا حديث سالم أعلى من هذا .

                                                                                      حدث عن أبيه فجود وأكثر ، وعن عائشة - وذلك في سنن النسائي - وأبي هريرة - وذلك في البخاري ومسلم - وعن زيد بن الخطاب العدوي ، وأبي لبابة بن عبد المنذر - وذلك مرسل - وعن رافع بن خديج ، وسفينة ، وأبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسعيد بن المسيب ، وامرأة أبيه صفية .

                                                                                      وعنه : ابنه أبو بكر ، وسالم بن أبي الجعد ، وعمرو بن دينار ، وعمرو بن دينار القهرمان ، ومحمد بن واسع ، ويحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، وأبو بكر بن حزم ، والزهري ، ومحمد بن أبي حرملة ، وكثير بن زيد ، وفضيل بن غزوان ، وحنظلة بن أبي سفيان ، وصالح بن كيسان ، وصالح بن محمد بن زائدة أبو واقد ، وعاصم بن عبد الله ، وعبد العزيز بن أبي رواد ، وعبيد الله بن عمر ، وعكرمة بن عمار ، وابن أخيه عمر بن حمزة ، وابن ابن أخيه عمر بن محمد بن زيد ، [ ص: 459 ] وابن ابن أخيه خالد بن أبي بكر بن عبيد الله ، وابن أخيه القاسم بن عبيد الله ، وخلق سواهم .

                                                                                      روى علي بن زيد ، عن ابن المسيب ، قال : قال لي ابن عمر : أتدري لم سميت ابني سالما ؟ قلت : لا . قال : باسم سالم مولى أبي حذيفة - يعني أحد السابقين .

                                                                                      يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب ، قال : كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به ، وكان سالم أشبه ولد عبد الله به .

                                                                                      روى سلمة الأبرش ، عن ابن إسحاق قال : رأيت سالم بن عبد الله يلبس الصوف ، وكان علج الخلق ، يعالج بيديه ويعمل .

                                                                                      قال يحيى بن بكير : قدم جماعة من المصريين المدينة ، فأتوا باب سالم بن عبد الله ، فسمعوا رغاء بعير ، فبينا هم كذلك خرج عليهم رجل شديد الأدمة ، متزر بكساء صوف إلى ثندوته ، فقالوا له : مولاك داخل ؟ قال : من تريدون ؟ قالوا : سالم . قال : فلما كلمهم جاء شيء غير المنظر ، قال : من أردتم ؟ قالوا : سالم . قال : ها أنا ذا فما جاء بكم ؟ قالوا : أردنا أن نسائلك . قال : سلوا عما شئتم . وجلس ويده ملطخة بالدم والقيح الذي أصابه من البعير ، فسألوه .

                                                                                      قال أشهب ، عن مالك ، قال : لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين ، في الزهد والفضل والعيش منه ; كان يلبس الثوب [ ص: 460 ] بدرهمين ، ويشتري الشمال ليحملها . قال : فقال سليمان بن عبد الملك لسالم - ورآه حسن السحنة - : أي شيء تأكل ؟ قال : الخبز والزيت ، وإذا وجدت اللحم أكلته . فقال له عمر : أوتشتهيه ؟ قال : إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه . وروى أبو المليح الرقي ، عن ميمون بن مهران قال : دخلت على ابن عمر ، فقومت كل شيء في بيته ، فما وجدته يسوى مائة درهم ، ثم دخلت مرة أخرى ، فما وجدت ما يسوى ثمن طيلسان ، ودخلت على سالم من بعده ، فوجدته على مثل حال أبيه .

                                                                                      روى زيد بن محمد بن زيد ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر يقبل سالما ويقول : شيخ يقبل شيخا .

                                                                                      ابن سعد ، عن محمد بن حرب المكي : سمع خالد بن أبي بكر يقول : بلغني أن ابن عمر كان يلام في حب سالم ، فكان يقول :

                                                                                      يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم



                                                                                      قال ابن أبي الزناد : كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغر السادة : علي بن الحسين ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، ففاقوا أهل المدينة علما وتقى وعبادة وورعا ، فرغب الناس حينئذ في السراري . [ ص: 461 ]

                                                                                      قال ابن المبارك : كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة : ابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وسالم ، والقاسم ، وعروة ، وعبيد الله بن عبد الله ، وخارجة بن زيد . وكانوا إذا جاءتهم مسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها ، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم ، فينظرون فيها فيصدرون .

                                                                                      ابن وهب : حدثنا مالك ، عن يزيد بن رومان ، عن سالم بن عبد الله : أنه كان يخرج إلى السوق في حوائج نفسه . واشترى شملة ، فانتهى بها إلى المسجد ، فرمى بها إلى عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، فحبسها عنده ساعة ، ثم قال : ألا تبعث من يحملها لك ؟ فقال : بل أنا أحملها .

                                                                                      وحدثني مالك ، قال : كان ابن عمر يخرج إلى السوق فيشتري ، وكان سالم دهره يشتري في الأسواق ، وكان من أفضل أهل زمانه .

                                                                                      وروى أبو سعيد الحارثي ، عن العتبي ، عن أبيه ، قال : دخل سالم على سليمان بن عبد الملك ، وعلى سالم ثياب غليظة رثة ، فلم يزل سليمان يرحب به ، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره ، وعمر بن عبد العزيز في المجلس ، فقال له رجل من أخريات الناس : ما استطاع خالك أن يلبس ثيابا فاخرة أحسن من هذه ، يدخل فيها على أمير المؤمنين ؟ ! قال : وعلى المتكلم ثياب سرية ، لها قيمة ، فقال له عمر : ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك ، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك . [ ص: 462 ]

                                                                                      قال أحمد بن عبد الله العجلي : سالم بن عبد الله تابعي ثقة .

                                                                                      وقال أحمد وابن راهويه : أصح الأسانيد ; الزهري ، عن سالم ، عن أبيه .

                                                                                      وروى عباس ، عن يحيى بن معين ، قال : سالم والقاسم حديثهما قريب من السواء ، وسعيد بن المسيب - أيضا - قريب منهما ، وإبراهيم أعجب إلي مرسلات منهم . قال عباس : قلت ليحيى : فسالم أعلم بابن عمر أو نافع ؟ قال : يقولون : إن نافعا لم يحدث حتى مات سالم .

                                                                                      وقال البخاري : لم يسمع سالم من عائشة .

                                                                                      وقال النسائي في حديث الزهري ، عن سالم ، عن أبيه مرفوعا " فيما سقت السماء العشر . . " الحديث : ورواه نافع عن ابن عمر قوله ، قال : واختلف سالم ونافع على ابن عمر في ثلاثة أحاديث ; هذا أحدها .

                                                                                      والثاني : " من باع عبدا له مال " فقال : سالم عن أبيه مرفوعا . وقال : نافع عن ابن عمر قوله . [ ص: 463 ]

                                                                                      وقال : سالم عن أبيه مرفوعا : " يخرج نار من قبل اليمن . . " ورواه نافع عن ابن عمر ، عن كعب قوله . قال : وسالم أجل من نافع ، وأحاديث نافع أولى بالصواب .

                                                                                      وقال ابن سعد كان سالم ثقة ، كثير الحديث ، عاليا من الرجال ورعا .

                                                                                      قال أبو ضمرة الليثي : حج هشام بن عبد الملك في سالم بن عبد الله ، فأعجبته سحنته ، فقال : أي شيء تأكل ؟ فقال : الخبز والزيت . قال : فإذا لم تشتهه ؟ قال : أخمره حتى أشتهيه . فعانه هشام ، فمرض ومات ، فشهده هشام وأجفل الناس في جنازته فرآهم هشام فقال : إن أهل المدينة لكثير . فضرب عليهم بعثا أخرج فيه جماعة منهم ، فلم يرجع منه أحد ، فتشاءم به أهل المدينة ، فقالوا : عان فقيهنا ، وعان أهل بلدنا .

                                                                                      قال جويرية بن أسماء : حدثني أشعب الطمع ، قال : قال لي سالم : لا تسأل أحدا غير الله تعالى .

                                                                                      وقال فطر بن خليفة : رأيت سالم بن عبد الله أبيض الرأس واللحية . [ ص: 464 ]

                                                                                      وقال معن بن عيسى : حدثني خالد بن أبي بكر ، قال : رأيت على سالم قلنسوة بيضاء ، وعمامة بيضاء يسدل منها خلفه أكثر من شبر .

                                                                                      قال أيوب السختياني : أتينا سالم بن عبد الله وهو في قميص وجبة قد اتزر فوقها .

                                                                                      قال نافع : كان سالم يركب في عهد ابن عمر بالقطيفة الأرجوان .

                                                                                      قال ابن سعد أخبرت عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن مالك ، عن ابن المسيب ، قال : أشبه ولد ابن عمر به سالم .

                                                                                      وقيل : كان سالم يركب حمارا عتيقا زريا ، فعمد أولاده فقطعوا ذنبه حتى لا يعود يركبه سالم ، فركب وهو أقطش الذنب ، فعمدوا فقطعوا أذنه ، فركبه ولم يغيره ذلك ، ثم جدعوا أذنه الأخرى ; وهو مع ذلك يركبه تواضعا واطراحا للتكلف .

                                                                                      الأصمعي ، عن أشعب ، قال : دخلت على سالم بن عبد الله فقال : حمل إلينا هريسة وأنا صائم ، فاقعد كل . قال : فأمعنت ، فقال : ارفق فما بقي يحمل معك . قال : فرجعت ، فقالت المرأة : يا مشئوم بعث عبد الله بن عمرو بن عثمان يطلبك ، وقلت : إنك مريض ! قال : أحسنت ، فدخل حماما وتمرج بدهن وصفرة ، قال : وعصبت رأسي ، وأخذت قصبة أتوكأ عليها وأتيته ، فقال : أشعب ؟ قلت : نعم ، جعلت فداك ، ما قمت منذ شهرين . قال : وعنده سالم ولم أشعر ، فقال : ويحك يا أشعب ، وغضب وخرج ، فقال عبد الله : [ ص: 465 ] ما غضب خالي سالم إلا من شيء ، فاعترفت له ، فضحك هو وجلساؤه . ووهب لي ، فخرجت فإذا أشعب قد لقي سالما فقال : ويحك ، ألم تأكل عندي الهريسة ؟ قلت : بلى ، فقال : والله لقد شككتني .

                                                                                      وحكى الأصمعي ، أن أشعب مر في طريق ، فعبث به الصبيان ، فقال : ويحكم ، سالم يقسم جوزا أو تمرا ، فمروا يعدون ، فغدا أشعب معهم ، وقال : ما يدريني لعله حق .

                                                                                      مات سالم في سنة ست ومائة . قاله ابن شوذب ، وعطاف بن خالد ، وضمرة ، وأبو نعيم ، وعدة . زاد بعضهم : في ذي القعدة ، وقال بعضهم : في ذي الحجة . فصلى عليه هشام بن عبد الملك بعد انصرافه من الحج .

                                                                                      وقال خليفة ، وأبو أمية بن يعلى : سنة سبع ومائة .

                                                                                      وقال الهيثم بن عدي ، وأبو عمر الضرير : سنة ثمان . والأول أصح .

                                                                                      قال الحافظ ابن عساكر : قدم سالم الشام وافدا على عبد الملك ببيعة والده له ، ثم قدم على الوليد ، ثم على عمر بن عبد العزيز .

                                                                                      قال يحيى بن سعيد : قلت لسالم في حديث : أسمعته من ابن عمر ؟ فقال : مرة واحدة ! أكثر من مائة مرة . [ ص: 466 ]

                                                                                      قال همام ، عن عطاء بن السائب : دفع الحجاج رجلا إلى سالم بن عبد الله ليقتله ، فقال للرجل : أمسلم أنت ؟ قال : نعم : قال : فصليت اليوم الصبح ؟ قال : نعم ، فرد إلى الحجاج ، فرمى بالسيف ، وقال : ذكر أنه مسلم ، وأنه صلى الصبح ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى الصبح فهو في ذمة الله " فقال : لسنا نقتله على صلاة ، ولكنه ممن أعان على قتل عثمان ، فقال : هاهنا من هو أولى بعثمان مني . فبلغ ذلك ابن عمر فقال : مكيس مكيس .

                                                                                      قال ابن عيينة : دخل هشام الكعبة ، فإذا هو بسالم بن عبد الله ، فقال : سلني حاجة . قال : إني أستحيي من الله أن أسأل في بيته غيره . فلما خرجا قال : الآن فسلني حاجة ، فقال له سالم : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ فقال : من حوائج الدنيا . قال : والله ما سألت الدنيا من يملكها ، فكيف أسألها من لا يملكها .

                                                                                      وكان سالم حسن الخلق ، فروي عن إبراهيم بن عقبة ، قال : كان سالم إذا خلا حدثنا حديث الفتيان .

                                                                                      وعن أبي سعد قال : كان سالم غليظا كأنه حمال . وقيل : كان على سمت أبيه في عدم الرفاهية .

                                                                                      حماد بن عيسى الجهني ، حدثنا حنظلة ، عن سالم ، عن أبيه ، عن [ ص: 467 ] عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مد يديه في الدعاء ، لم يرسلهما حتى يمسح بهما وجهه .

                                                                                      تفرد به حماد ، وفيه لين .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية