الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دل على مقصودها من قول أو فعل ، هي التي تدل عليها أصول الشريعة ، وهي التي تعرفها القلوب ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [النساء : 3 ] ، وقال : ( أنكحوا الأيامى منكم ) [النور : 32] وقال : ( وأحل الله البيع ) [البقرة : 275] ، وقال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [النساء : 4] ، [ ص: 161 ] وقال : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [النساء : 29] ، وقال : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) [الطلاق : 6] ، وقال : ( ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) [البقرة : 282 ، 283 ] وقال : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) [البقرة : 245] ، وقال : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ) [البقرة : 261 ] ، وقال : ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات ) [البقرة : 276] ، وقال : ( إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ) [ الحديد : 18] ، وقال : ( فتحرير رقبة ) [النساء : 92] ، وقال : ( فطلقوهن لعدتهن ) [الطلاق : 1] وقال : ( فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ) [ البقرة : 231] ، إلى غير ذلك من الآيات المشروع فيها هذه العقود : إما أمرا ، وإما إباحة ، والمنهي فيها عن بعضها كالربا ، فإن الدلالة فيها من وجوه :

              أحدها : أنه اكتفى بالتراضي في البيع في قوله : ( إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ، وبطيب نفس في التبرع في [ ص: 162 ] قوله : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) فتلك الآية في جنس المعاوضات ، وهذه الآية في جنس التبرعات ، ولم يشترط لفظا معينا ، ولا فعلا معينا يدل على التراضي ، وعلى طيب النفس ، ونحن نعلم بالاضطرار من عادات الناس في أقوالهم وأفعالهم أنهم يعلمون التراضي وطيب النفس بطرق متعددة من الأقوال والأفعال .

              فنقول : قد وجد التراضي وطيب النفس ، والعلم به ضروري في غالب ما يعتاد من العقود ، وهو ظاهر في بعضها ، وإذا وجد تعلق الحكم بهما بدلالة القرآن ، وبعض الناس قد يحمله اللدد في نصره لقول معين على أن يجحد ما يعلمه الناس من التراضي وطيب النفس ، فلا عبرة بجحد مثل هذا ، فإن جحد الضروريات قد يقع كثيرا عن مواطأة وتلقين في الأخبار والمذاهب ، فالعبرة بالفطرة السليمة التي لم يعارضها ما يغيرها ، ولهذا قلنا : إن الأخبار المتواترة يحصل بها العلم حيث لا تواطؤ على الكذب ؛ لأن الفطر السليمة لا تتفق على الكذب ، فأما مع التواطؤ والاتفاق فقد يتفق جماعات على الكذب .

              الوجه الثاني : أن هذه الأسماء جاءت في كتاب الله وسنة رسوله معلقا بها أحكام شرعية ، وكل اسم فلا بد له من حد ، فمنه ما يعلم حده باللغة ، كالشمس والقمر والبر والبحر والسماء والأرض ، ومنه ما يعلم بالشرع ، كالمؤمن والكافر والمنافق ، وكالصلاة والزكاة والصيام والحج ، وما لم يكن له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس ، كالقبض المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم - : من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه .

              [ ص: 163 ] ومعلوم أن البيع والإجارة والهبة ونحوها لم يحد الشارع لها حدا ، لا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا نقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه عين للعقود صفة معينة [من ] الألفاظ أو غيرها ، أو قال ما يدل على ذلك من أنها لا تنعقد إلا بالصيغ الخاصة ، بل قد قيل : إن هذا القول مما يخالف الإجماع القديم ، وأنه من البدع ، وليس لذلك حد في لغة العرب ، بحيث يقال : إن أهل اللغة يسمون هذا بيعا ولا يسمون هذا بيعا ، حتى يدخل أحدهما في خطاب الله ولا يدخل الآخر ، بل تسمية أهل العرف من العرب هذه المعاقدات بيعا : دليل على أنها في لغتهم تسمى بيعا ، والأصل بقاء اللغة وتقريرها لا نقلها وتغييرها ، فإذا لم يكن له حد في الشرع ولا في اللغة كان المرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم ، فما سموه بيعا فهو بيع ، وما سموه هبة فهو هبة .

              الوجه الثالث : أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان : عبادات يصلح بها دينهم ، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم ، فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية