الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              ولعل الذين اختلفوا في كراء الأرض البيضاء أو المزارعة لم يختلفوا في كراء الأرض السوداء ، ولا في المساقاة ; لأن منفعة الأرض ليس فيها طائل بالنسبة إلى منفعة الشجر .

              فإن قيل : فقد قال حرب الكرماني : سئل أحمد عن تفسير حديث ابن عمر : " القبالات ربا " قال : هو أن يتقبل القرية فيها النخل والعلوج ، قيل : فإن لم يكن فيها نخل ، وهي أرض بيضاء ؟ قال : لا بأس ، إنما هو الآن مستأجر ، قيل : فإن فيها علوجا ؟ قال : فهذا هو القبالة المكروهة ، قال حرب : حدثنا عبيد الله بن معاذ [ ص: 208 ] حدثنا أبي حدثنا سعيد عن جبلة سمع ابن عمر يقول : " القبالات ربا " ، قيل : الربا فيما يجوز تأجيله إنما يكون في الجنس الواحد ، لأجل الفضل ، فإذا قيل في الأجرة أو الثمن أو نحوهما : إنه ربا ، مع جواز تأجيله ، فلأنه معاوضة بجنسه متفاضلا ; لأن الربا إما ربا النساء ، وذلك [لا يكون فيما يجوز ] تأجيله ، وإما ربا الفضل ، وذلك لا يكون إلا في الجنس الواحد ، فإذا انتفى ربا النساء الذي هو التأخير لم يبق إلا ربا الفضل ، الذي هو الزيادة في الجنس الواحد ، وهذا يكون إذا كان التقبل بجنس مغل الأرض ، مثل : أن يقبل الأرض التي فيها نخل [بتمر] ، فيكون مثل المزابنة ، وهذا مثل اكتراء الأرض بجنس الخارج منها إذا كان مضمونا في الذمة ، مثل : أن يكتريها ليزرع فيها حنطة بحنطة معلومة ، ففيه روايتان عن أحمد ، إحداهما : أنه ربا ، كقول مالك ، وهذا مثل القبالة التي كرهها ابن عمر ; لأنه ضمن الأرض للحنطة بحنطة [معلومة ، فكأنه ابتاع حنطة بحنطة] تكون أكثر أو أقل ، فيظهر الربا .

              فالقبالات التي ذكر ابن عمر أنها ربا : هو أن يضمن الأرض التي فيها النخل والفلاحون من جنس مغلها ، مثل أن يكون لرجل قرية فيها شجر وأرض ، وفيها فلاحون يعملون ، تغل له ما تغل من الحنطة والتمر بعد أجرة الفلاحين أو نصيبهم ، فيضمنها رجل منه بمقدار معلوم من الحنطة والتمر ونحو ذلك ، فهذا مظهر تسميته بالربا ، فأما ضمان الأرض بالدراهم والدنانير فليس من باب [ ص: 209 ] الربا بسبيل ، ومن حرمه فهو عنده من باب الغرر .

              ثم إن أحمد لم يكره ذلك إذا كانت أرضا بيضاء ; لأن الإجارة عنده جائزة ، وإن كانت الأجرة من جنس الخارج على إحدى الروايتين ; لأن المستأجر يعمل في الأرض بمنفعته وماله ، فيكون المغل بكسبه ، بخلاف ما إذا كان فيها العلوج ، وهم الذين يعالجون العمل ، فإنه لا يعمل فيها شيئا لا بمنفعته ولا بماله ، بل العلوج يعملونها ، وهو يؤدي القبالة ويأخذ بدلها ، فهو طلب الربح في مبادلة المال من غير صناعة ولا تجارة ، وهذا هو الربا ، ونظير هذا ما جاء به عن [ ابن عمر ] أنه ربا ، وهو اكتراء الحمام والطاحون والفنادق ، ونحو ذلك مما لا ينتفع المستأجر به ، فلا يتجر فيه ولا يصطنع فيه ، وإنما يكتريه ليكريه فقط ، فقد قيل : هو ربا .

              والحاصل أنها لم تكن ربا لأجل النخل ، ولا لأجل الأرض إذا كانت بغير جنس المغل ، وإنما كانت ربا لأجل العلوج ، وهذه الصورة لا حاجة إليها ، فإن العلوج يقومون بها ، فتقبيلها لآخر مراباة له ، ولهذا كرهها أحمد ، وإن كانت بيضاء إذا كان فيها العلوج .

              وقد استدل حرب الكرماني على المسألة بمعاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر على أرضها : بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع ، على أن يعمروها من أموالهم ، وذلك أن هذا في المعنى إكراء للأرض منهم ببعض ما يخرج منها ، مع إكراء الشجر بنصف ثمره ، فيقاس عليه إكراء الأرض والشجر بشيء مضمون ; لأن إعطاء الثمر لو كان بمنزلة بيعه ، لكان إعطاء بعضه بمنزلة بيعه ، وذلك لا يجوز ، وهذه المسألة لها أصلان :

              [ ص: 210 ] الأصل الأول : أنه متى كان بين الشجر أرض أو مساكن دعت الحاجة إلى كرائهما جميعا ، فيجوز لأجل الحاجة ، وإن كان في ذلك غرر يسير ، لا سيما إن كان البستان وقفا ، أو مال يتيم ، فإن تعطيل منفعته لا يجوز ، وإكراء الأرض أو المسكن وحده لا يقع في العادة ، ولا يدخل أحد في إجارته على ذلك ، وإن اكتراه اكتراه بنقص كثير عن قيمته ، وما لا يتم المباح إلا به فهو مباح ، فكل ما ثبت إباحته بنص أو إجماع وجب إباحة لوازمه ، إذا لم يكن في تحريمها نص ولا إجماع ، وإن قام دليل يقتضي تحريم لوازمه ، وما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه فهو حرام ، فهنا يتعارض الدليلان .

              وفي مسألتنا قد ثبت إباحة كراء بالسنة واتفاق الفقهاء المتبوعين ، بخلاف دخول كراء الشجر ، فإن تحريمه مختلف فيه ، ولا نص فيه .

              وأيضا : فمتى أكريت الأرض وحدها وبقي الشجر لم يكن المكتري مأمونا على الثمر ، فيفضي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة ، كما إذا بدا الصلاح في نوع واحد ، يخرج على هذا القول ، مثل قول الليث بن سعد : إذا بدا الصلاح في جنس - وكان في بيعه متفرقا ضرر - جاز بيع جميع الأجناس . [وبه فسر] تفريق الصفقة ، ولأنه إذا أراد أن يبيع الثمر بعد ذلك لم يجد من يشتري الثمرة إذا كانت الأرض والمساكن لغيره إلا بنقص كثير ، ولأنه إذا أكرى الأرض ، فإن شرط عليه سقي الشجر - والسقي من جملة المعقود عليه - صار المعوض عوضا ، وإن لم يشرط عليه السقي ، فإذا سقاها - إن ساقاه عليها - صارت الإجارة لا تصح إلا بمساقاة ، وإن [ ص: 211 ] لم يساقه لزم تعطيل منفعة المستأجر ، فيدور الأمر بين أن تكون الأجرة بعض المنفعة ، أو لا تصح الإجارة إلا بمساقاة ، أو بتفويت منفعة المستأجر ، ثم إن حصل للمكري جميع الثمرة أو بعضها ففي بيعها - مع أن الأرض والمساكن لغيره - نقص للقيمة في مواضع كثيرة .

              فيرجع الأمر إلى أن الصفقة إذا كان في تفريقها ضرر جاز الجمع بينهما في المعاوضة ، وإن لم يجز إفراد كل منهما ; لأن حكم الجمع يخالف حكم التفريق ، ولهذا وجب عند أحمد وأكثر الفقهاء على أحد الشريكين إذا تعذرت القسمة : أن يبيع مع شريكه أو يؤاجر معه ، إن كان المشترك منفعة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق " أخرجاه في الصحيحين ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتقويم العبد كله ، وبإعطاء الشريك حصته من القيمة ، ومعلوم أن قيمة حصته مفردة دون حصته من قيمة الجميع ، فعلم أن حقه في نصف النصف ، وإذا استحق ذلك بالإعتاق فبسائر أنواع الإتلاف أولى ، وإنما يستحق بالإتلاف ما يستحق بالمعاوضة ، فعلم أنه يستحق بالمعاوضة نصف القيمة ، وإنما يمكن ذلك عند بيع الجميع ، فيجب قسمة العين حيث لا ضرر فيها ، فإن كان فيها ضرر قسمت القيمة .

              فإذا كنا قد أوجبنا على الشريك بيع نصيبه لما في التفريق من نقص قيمة شريكه ، فلأن يجوز بيع الأمرين جميعا - إذا كان في [ ص: 212 ] تفريقهما ضرر - أولى ، ولذلك جاز بيع الشاة مع اللبن الذي في ضرعها ، وإن أمكن تفريقهما بالحلب ، وإن كان بيع اللبن وحده لا يجوز .

              وعلى هذا الأصل : فيجوز متى كان مع الشجر منفعة مقصودة ، كمنفعة أرض للزرع أو بناء للسكن ، وأما إن كان المقصود هو الثمر فقط ، ومنفعة الأرض أو المسكن ليست جزءا من المقصود ، وإنما دخلت لمجرد الحيلة ، كما قد يفعل في مسائل " مد عجوة " لم يجئ هذا الأصل .

              الأصل الثاني : أن يقال : إكراء الشجر للاستثمار يجري مجرى إكراء الأرض للازدراع ، واستئجار الظئر للرضاع ، وذلك : أن الفوائد التي [تستخلف] مع بقاء أصولها تجري مجرى المنافع ، وإن كانت أعيانا ، وهي ثمر الشجر ولبن الآدميات ، والبهائم والصوف ، والماء العذب ، فإنه كلما خلق من هذه شيء فأخذ ، خلق الله بدله مع بقاء الأصل ، كالمنافع سواء ، ولهذا جرت في الوقف والعارية والمعاملة بجزء من النماء مجرى المنفعة ، فإن الوقف لا يكون إلا فيما ينتفع به مع بقاء أصله ، فإذا جاز وقف الأرض البيضاء أو الرباع لمنفعتها ، فكذلك وقف الحيطان لثمرتها ، ووقف الماشية لدرها وصوفها ، ووقف الآبار والعيون لمائها ، بخلاف ما يذهب بالانتفاع كالطعام ، ونحوه فلا يوقف .

              وأما باب العارية فيسمون إباحة الظهر إفقارا ، يقال : أفقره الظهر ، وما أبيح لبنه : منيحة ، وما أبيح ثمره : عرية ، وغير ذلك [ ص: 213 ] عارية ، وشبهوا ذلك بالقرض الذي ينتفع به المقترض ثم يرد مثله . ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " منيحة لبن ، أو منيحة ورق " فاكتراء الشجر ; لأن يعمل عليها ويأخذ ثمرها بمنزلة استئجار الظئر لأجل لبنها ، وليس في القرآن إجارة منصوصة إلا إجارة الظئر في قوله سبحانه : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ) [الطلاق : 6] .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية