الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي وقف البحر وغيره : متى كان في المسألة قولان مصححان جاز القضاء والإفتاء بأحدهما . وفي أول [ ص: 72 ] المضمرات : أما العلامات للإفتاء فقوله وعليه الفتوى ، وبه يفتى ، وبه نأخذ ، وعليه الاعتماد ، وعليه عمل اليوم وعليه عمل الأمة ، وهو الصحيح ، أو الأصح ، أو الأظهر ، أو الأشبه ، أو الأوجه ، أو المختار ، ونحوها مما ذكر في حاشية البزدوي ا هـ

وقال شيخنا الرملي في فتاويه : وبعض الألفاظ آكد من بعض ، [ ص: 73 ] فلفظ الفتوى آكد من لفظ الصحيح ، والأصح والأشبه وغيرها ، ولفظ وبه يفتى آكد من الفتوى عليه ، والأصح آكد من الصحيح ، والأحوط آكد من الاحتياط انتهى .

قلت : لكن في شرح المنية للحلبي عند قوله : ولا يجوز مس مصحف إلا بغلافه إذا تعارض إمامان معتبران عبر أحدهما بالصحيح والآخر بالأصح ، فالأخذ بالصحيح أولى ; لأنهما اتفقا على أنه صحيح ، والأخذ بالمتفق أوفق فليحفظ .

ثم رأيت في رسالة آداب المفتي : إذا ذيلت رواية في كتاب يعتمد بالأصح أو الأولى ، أو الأوفق أو نحوها ، فله أن يفتي بها وبمخالفها أيضا أيا شاء ، وإذا ذيلت بالصحيح أو المأخوذ به ، أو وبه يفتى ، أو عليه الفتوى - [ ص: 74 ] لم يفت بمخالفه إلا إذا كان في الهداية مثلا هو الصحيح . وفي الكافي بمخالفه هو الصحيح فيخير فيختار الأقوى عنده والأليق والأصلح ا هـ فليحفظ

التالي السابق


( قوله : وفي وقف البحر إلى آخره ) هذا محمول على ما إذا لم يكن لفظ التصحيح في أحدهما آكد من الآخر كما أفادهح : أي فلا يخير بل يتبع الآكد كما سيأتي . [ ص: 72 ]

أقول : وينبغي تقييد التخيير أيضا بما إذا لم يكن أحد القولين في المتون لما قدمناه آنفا عن البيري ، ولما في قضاء الفوائت من البحر ، من أنه إذا اختلف التصحيح والفتوى فالعمل بما وافق المتون أولى . ا هـ . وكذا لو كان أحدهما في الشروح والآخر في الفتاوى لما صرحوا به من أن ما في المتون مقدم على ما في الشروح ، وما في الشروح مقدم على ما في الفتاوى ، لكن هذا عند التصريح بتصحيح كل من القولين أو عدم التصريح أصلا . أما لو ذكرت مسألة المتون ولم يصرحوا بتصحيحها بل صرحوا بتصحيح مقابلها فقد أفاد العلامة قاسم ترجيح الثاني ; لأنه تصحيح صريح ، وما في المتون تصحيح التزامي ، والتصحيح الصريح مقدم على التصحيح الالتزامي : أي التزام المتون ذكر ما هو الصحيح في المذهب ، وكذا لا تخيير لو كان أحدهما قول الإمام والآخر قول غيره ; لأنه لما تعارض التصحيحان تساقطا فرجعنا إلى الأصل وهو تقديم قول الإمام ، بل في شهادات الفتاوى الخيرية : المقرر عندنا أنه لا يفتي ويعمل إلا بقول الإمام الأعظم ، ولا يعدل عنه إلى قولهما أو قول أحدهما أو غيرهما إلا لضرورة كمسألة المزارعة وإن صرح المشايخ بأن الفتوى على قولهما ; لأنه صاحب المذهب والإمام المقدم ا هـ ومثله في البحر عند الكلام على أوقات الصلاة ، وفيه من كتاب القضاء : يحل الإفتاء بقول الإمام بل يجب وإن لم يعلم من أين قال . ا هـ . وكذا لو عللوا أحدهما دون الآخر كان التعليق ترجيحا للمعلل كما أفاده الرملي في فتاواه من كتاب الغصب ، وكذا لو كان أحدهما استحسانا والآخر قياسا ; لأن الأصل تقديم الاستحسان إلا فيما استثنى كما قدمناه فيرجع إليه عند التعارض ، وكذا لو كان أحدهما ظاهر الرواية وبه صرح في كتاب الرضاع من البحر حيث قال : الفتوى إذا اختلفت كان الترجيح لظاهر الرواية ، وفيه من باب المصرف : إذا اختلف التصحيح وجب الفحص عن ظاهر الرواية والرجوع إليها ، وكذا لو كان أحدهما أنفع للوقف لما سيأتي في الوقف والإجارات أنه يفتي بكل ما هو أنفع للوقف فيما اختلف العلماء فيه ، وكذا لو كان أحدهما قول الأكثرين ، لما قدمناه عن الحاوي .

والحاصل أنه إذا كان لأحد القولين مرجح على الآخر ثم صحح المشايخ كلا من القولين ينبغي أن يكون المأخوذ به ما كان له مرجح ; لأن ذلك المرجح لم يزل بعد التصحيح ، فيبقى فيه زيادة قوة لم توجد في الآخر ، هذا ما ظهر لي من فيض الفتاح العليم .

( قوله : وعليه الفتوى ) مشتقة من المفتي وهو الشاب القوي ، وسميت به لأن المفتي يقوي السائل بجواب حادثته ابن عبد الرزاق عن شرح المجمع للعيني ، والمراد بالاشتقاق فيها ملاحظة ما أنبأ عنه الفتى من القوة والحدوث لا حقيقته كذا قيل .

( قوله : وعليه عمل اليوم ) المراد باليوم مطلق الزمان ، وأل فيه للحضور ، والإضافة على معنى في ، وهي من إضافة المصدر إلى زمانه كصوم رمضان : أي عليه عمل الناس في هذا الزمان الحاضر .

( قوله : أو الأشبه ) قال في البزازية : معناه الأشبه بالمنصوص رواية والراجح دراية فيكون عليه الفتوى . ا هـ . والدراية بالدال المهملة تستعمل بمعنى الدليل كما في المستصفى .

( قوله : أو الأوجه ) أي الأظهر وجها من حيث إن دلالة الدليل عليه متجهة ظاهرة أكثر من غيره .

( قوله : ونحوها ) كقولهم : وبه جرى العرف ، وهو المتعارف ، وبه أخذ علماؤنا ط .

( قوله : وقال شيخنا ) المراد به حيث أطلق في هذا الكتاب العلامة الشيخ خير الدين الرملي .

( قوله : في فتاويه ) جمع فتوى ويجمع على فتاوى بالألف أيضا ، وهي هنا اسم لفتاوى شيخه المشهورة المسماة بالفتاوى الخيرية لنفع البرية وقد ذكر ذلك في آخرها في مسائل شتى .

( قوله : آكد من بعض ) أي أقوى فتقدم على غيرها ، [ ص: 73 ] وهذا التقديم راجح لا واجب كما يفيده ما يأتي عن شرح المنية .

( قوله : فلفظ الفتوى ) أي اللفظ الذي فيه حروف الفتوى الأصلية بأي صيغة عبر بها ط .

( قوله : آكد من لفظ الصحيح إلخ ) لأن مقابل الصحيح أو الأصح ونحوه قد يكون هو المفتى به لكونه هو الأحوط أو الأرفق بالناس أو الموافق لتعاملهم وغير ذلك مما يراه المرجحون في المذهب داعيا إلى الإفتاء به ، فإذا صرحوا بلفظ الفتوى في قول علم أنه المأخوذ به ويظهر لي أن لفظ وبه نأخذ وعليه العمل مساو للفظ الفتوى وكذا بالأولى لفظ عليه عمل الأمة ; لأنه يفيد الإجماع عليه تأمل .

( قوله : وغيرها ) كالأحوط والأظهر ط . وفي الضياء المعنوي في مستحبات الصلاة : لفظة الفتوى آكد وأبلغ من لفظة المختار .

( قوله : آكد من الفتوى عليه ) قال ابن الهمام : والفرق بينهما أن الأول يفيد الحصر ، والمعنى أن الفتوى لا تكون إلا بذلك ، الثاني يفيد الأصحية . ا هـ . ابن عبد الرزاق .

( قوله : والأصح آكد من الصحيح ) هذا هو المشهور عند الجمهور ; لأن الأصح مقابل للصحيح ، وهو : أي الصحيح مقابل للضعيف ، لكن في حواشي الأشباه لبيري : ينبغي أن يقيد ذلك بالغالب ; لأنا وجدنا مقابل الأصح الرواية الشاذة كما في شرح المجمع . ا هـ . ابن عبد الرزاق .

( قوله : والأحوط إلخ ) الظاهر أن يقال ذلك في كل ما عبر فيه بأفعل التفضيل ط ، والاحتياط العمل بأقوى الدليلين كما في النهر .

( قوله : قلت لكن إلخ ) استدراك على ما يفهم من كلام الرملي حيث ذكر أن بعض هذه الألفاظ آكد من بعض فإنه ظاهر في أن مراده تقديم الآكد على غيره ، فيلزم منه تقديم الأصح على الصحيح ، وهو مخالف لما في شرح المنية . وأما كون مراده مجرد بيان أن الأصح آكد بمقتضى أفعل التفضيل وذلك لا ينافي تقديم الصحيح للاتفاق عليه ، فهو في غاية البعد ، على أنه لا يتأتى في لفظ الفتوى مع غيره فإنه جعله آكد ، ولا معنى لآكديته إلا تقديمه على غيره كما لا يخفى فافهم ، ويدل على أن مراده ما قلناه أولا ما قاله في الخيرية أيضا في كتاب الكفالة بعد كلام . قلت : وقوله والصحيح لا يدفع قول صاحب المحيط ، هذا هو الأصح وعليه الفتوى . ا هـ .

( قوله : إمامان معتبران ) أي من أئمة الترجيح ط .

( قوله : لأنهما اتفقا إلخ ) أي وانفرد أحدهما يجعل الآخر أصح . قلت : والعلة لا تخص هذين اللفظين ، بل كذلك الوجيه والأوجه والاحتياط والأحوط أفاده ط .

( قوله : إذا ذيلت رواية إلخ ) أي جعل ذيلها : أي في آخرها ، والمتبادر من هذه العبارة أن التذييل بالتصحيح وقع لرواية واحدة دون مخالفتها فليس فيه تعارض التصحيح ، لكن إذا كان التصحيح بصيغة أفعل التفضيل أفاد أن الرواية المخالفة صحيحة أيضا ، فله الإفتاء بأي شاء منهما ، وإن كان الأولى تقديم الأولى لزيادة الصحة فيها ، وسكت عنه لظهوره .

وأما إذا كان التصحيح بصيغة تقتضي قصر الصحة على تلك الرواية فقط كالصحيح والمأخوذ به ونحوهما مما يفيد ضعف الرواية المخالفة لم يجز الإفتاء بمخالفها ، لما سيأتي أن الفتيا بالمرجوح جهل ، وهذا بخلاف ما إذا [ ص: 74 ] وجد التصحيح في كتاب آخر للرواية الأخرى ، فإن الأولى تقديم الآكد منهما أو المتفق عليه على الخلاف المار ، وبه ظهر أن هذا تفصيل آخر زائد على ما مر غير مخالف له فافهم .

( قوله : إلا إذا كان إلخ ) استثناء منقطع ; لأنه مفروض فيما وجد فيه التصحيح من كلا الطرفين والمستثنى منه فيما إذا لم يذيل مخالفه بشيء كما مر . وفائدة هذا الاستثناء توضيح ما مر عن وقف البحر وبيان المراد من التخيير ، فليس فيه تكرير فافهم .

( قوله : وفي الكافي ) يحتمل أن المراد به كافي الحاكم أو كافي النسفي الذي شرح به كتابه الوافي أصل الكنز والظاهر الثاني .

( قوله : فيختار الأقوى ) أي إن كان من أهل النظر في الدليل أو نص العلماء على ذلك ولا تنس ما قدمناه من بقية قيود التخيير .

( قوله : والأليق ) أي لزمانه والأصلح الذي يراه مناسبا في تلك الواقعة .

( قوله : فليحفظ ) أي جميع ما ذكرناه .

وحاصله : أن الحكم إن اتفق عليه أصحابنا يفتى به قطعا ، وإلا فإما أن يصحح المشايخ أحد القولين فيه أو كلا منهما ، أولا وإلا ففي الثالث يعتبر الترتيب ، بأن يفتى بقول أبي حنيفة ثم بقول أبي يوسف إلخ ، أو يعتبر قوة الدليل ، وقد مر التوفيق ، وفي الأول إن كان التصحيح بأفعل التفضيل خير المفتي ، وإلا فلا ، بل يفتى بالمصحح فقط ، وهذا ما نقله عن الرسالة . وفي الثاني إما أن يكون أحدهما بأفعل التفضيل أو لا . ففي الأول قيل يفتى بالأصح وهو المنقول عن الخيرية وقيل بالصحيح وهو المنقول عن شرح المنية ، وفي الثاني يخير المفتي وهو المنقول عن وقف البحر والرسالة أفاده ح .




الخدمات العلمية