الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( والله يختص برحمته من يشاء ) : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك . ويحتمل أن يكون يختص هنا لازما ، أي ينفرد ، أو متعديا ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك . يقال : اختص زيدا بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، والله يفرد برحمته من يشاء ، فيكون " من " فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيدا [ ص: 341 ] بكذا . فإذا كان لازما ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعديا ، كان موافقا لفعل المجرد نحو : كسب زيد مالا ، واكتسب زيد مالا . والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ; أو النبوة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله علي والباقر ومجاهد والزجاج ; أو الإسلام ، قاله ابن عباس ; أو القرآن ، أو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول .

( والله ذو الفضل العظيم ) : قد تقدم أن ذو بمعنى صاحب . وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبدا لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف . ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها . وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاز أن يقول : صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله : ( ذو الجلال ) ، ( ذو الفضل ) ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى : ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا ) ، وقوله تعالى : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) ، إن شاء الله تعالى . وتقدم تفسير ( الفضل العظيم ) ، ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوة . وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله : ( وكان فضل الله عليك عظيما ) ، أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ; أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة ، ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) ، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول .

( ما ننسخ من آية ) : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمدا يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غدا ، ويقول اليوم قولا ، ويرجع عنه غدا ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وإنه يناقض بعضه بعضا ، فنزلت .

وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلا ، ووقوعه شرعا ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطولوا في ذلك . وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه . وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير . ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير .

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير . فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره أن النحوي مثلا يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في الله ، أهي منقلبة من ياء أو واو ؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في الله تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل . ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس . ثم استطرد إلى أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب . ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم . فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي - قدس [ ص: 342 ] الله تربته - يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظن أن المتغايرات متماثلات .

وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمدا ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير . وأسأل الله التوفيق للصواب .

وما من قوله : ( ما ننسخ ) ، شرطية ، وهي مفعول مقدم ، وفي ( ننسخ ) التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم . ألا ترى إلى قوله : ( والله يختص ) ؟ ( والله ذو الفضل ) ؟ وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معا ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط . وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ؛ لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ؛ لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخا . وليس الأمر كذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخا ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محمودا ، وأبخلته إذا وجدته بخيلا . قال أبو علي : وليس نجده منسوخا إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ . انتهى كلامه . فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب . وجعل الزمخشري الهمزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل - عليه السلام - بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية . وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين . تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيدا ينسخ الشيء ، أي يزيله . وقال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخه ، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخا . وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضا هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ . وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ . وخرج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضا ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في " ننسأها " . انتهى كلامه . وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه . وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو " ننسأها " ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائدا عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظا لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية . التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله : ( ما ننسخ من آية ) مفلتا من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى .

من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس . والمعنى : أي شيء من الآيات . وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله : ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) ، ( وما بكم من نعمة ) ، وقولهم : من يضرب من رجل أضربه . ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولا لفعل الشرط ؛ لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم . لو قلت : من يضرب أضرب ، كان عاما في مدلول من . فإذا قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، [ ص: 343 ] ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عاما للنوعين . ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز . قال : والمميز ما قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية . قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية . لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه . وجوزوا أيضا أن تكون من زائدة ، و " آية " حالا . والمعنى : أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا . قالوا : وقد جاءت الآية حالا في قوله تعالى هذه : ( ناقة الله لكم آية ) ، وهذا فاسد لأن الحال لا يجر بمن وجوزوا أيضا أن تكون ما مصدرا ، و " آية " مفعولا به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدرا جائز ، تقول : ما تضرب زيدا أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيدا أضرب مثله ، وقال الشاعر :


نعب الغراب فقلت بين عاجل ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب



وهذا فاسد ؛ لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عري الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط . ألا ترى أنك لو قلت : أي ضرب يضرب هندا أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ؛ لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على " أي ضرب " الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه " من " الزائدة إلا بشرط أن يتقدمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين . والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين .

( أو ننسأها ) : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة . وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز . وذكر أبو عبيد البكري في كتاب : ( اللآلئ ) ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال : وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزوا . وقرأ أبو حيوة كذلك ، إلا أنه ضم التاء . وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز . وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين . وقرأ الضحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز . وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة . وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة . وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجئ بمثلها . وهكذا ثبت في مصحف عبد الله ، فتحصل في هذه اللفظة - دون قراءة الأعمش - إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها وننسك وننسكها . وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد الله وابن عباس أيضا ، أو الرفع ، قاله السدي . وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ، فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ، فالمعنى : أو نترك إنزالها ، قاله الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظا يتلى ولا حكما يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال :


إن علي عقبة أقضيها     لست بناسيها ولا منسيها



أي لا آمر بتركها . وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ؛ لأنه لا يقال : أنسي بمعنى ترك . وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ؛ لأنه [ ص: 344 ] بمعنى نجعلك تتركها . وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نسي قرآنا . وقال أبو علي وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه . واحتج الزجاج بقوله تعالى : ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ) ، أي لم نفعل . قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ، وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه . قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآنا جائز . وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ؛ لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : " أفي القوم أبي ؟ " قال : نعم يا رسول الله ، قال : " فلم لم تذكرني ؟ " قال : خشيت أنها رفعت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لم ترفع ولكني نسيتها " . انتهى كلام ابن عطية . وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوما أو يومين أو أكثر ، أخرها عن الورد . وأما في الآية فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظا وحكما ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله : ( نأت بخير منها ) ؛ لأن ما أمضي وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها . وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديما وتأخيرا تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها . ثم قال : أو ننسأها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها . وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن .

( نأت ) : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين .

( بخير منها ) : الظاهر أن خيرا هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ؛ لأن المأتى به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب .

( أو مثلها ) : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة . وذهب قوم إلى أن خيرا هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله : ( أن ينزل عليكم من خير من ربكم ) ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية . ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله : ( أو مثلها ) ، فإنه لا يصح عطفه على قوله : ( بخير ) على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غير بدل هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف . وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار .

( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) ؟ قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على قول جماعة : أم تريدون . وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطبة أمته ، وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي . انتهى كلامه ونقله . وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جدا ، خصوصا إذا دخل على النفي : ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) ؟ ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ؟ ( ألم نربك فينا وليدا ) ؟ [ ص: 345 ] ( ألم يجدك يتيما فآوى ) ؟ ( ألم نشرح لك صدرك ) ؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ؛ لأنه إنما يراد به التقرير . والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن الله قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل . وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه . وفي قوله : ( ألم تعلم أن الله ) ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو : ( من خير من ربكم ) ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو الله ، إذ هو الاسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله : ألم تعلم أننا إلى قوله : ( ألم تعلم أن الله ) ، وقد تقدم تفسير قوله : ( إن الله على كل شيء قدير ) في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية