الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما الهدى فقد جاء على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الدلالة والبيان ، قال تعالى : ( أولم يهد لهم كم أهلكنا ) [ السجدة : 26 ] ، وقال : ( فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي ) [ البقرة : 38 ] ، وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان ، وقال : ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ) [ النجم : 23 ] ، وقال : ( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) [ الإنسان : 3 ] ، أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين ، وقال : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ فصلت : 17 ] ، وقال : ( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) [ الأنعام : 154 ] ، وهذا لا يقال للمؤمن ، وقال تعالى حكاية عن خصوم داود - عليه السلام - : ( ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط ) [ ص : 22 ] ، أي أرشدنا ، وقال : ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ) [ محمد : 25 ] ، وقال : ( أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله ) [ الزمر : 56 ] ، إلى قوله : ( أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين ) [ الزمر : 57 ] ، إلى قوله : ( بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت ) [ الزمر : 59 ] ، أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات ، وقال : ( أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ) [ الأنعام : 157 ] ، وهذه مخاطبة للكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قالوا في قوله : ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) [ الشورى : 52 ] ، أي لتدعو ، وقوله : ( ولكل قوم هاد ) [ الرعد : 7 ] ، أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : التوفيق من الله بالألطاف المشروطة بالإيمان ، يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته ، فهذا ثواب لهم ، وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم ، والدليل على هذا الوجه قوله تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى ) [ محمد : 17 ] ، ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) [ مريم : 76 ] ، ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ البقرة : 258 ] ، ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ) [ إبراهيم : 27 ] ، ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ) [ آل عمران : 86 ] ، فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات ، فهذا الهدى غير البيان لا محالة ، وقال تعالى : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) [ التغابن : 11 ] ، ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) [ المجادلة : 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الهدى إلى طريق الجنة ، قال تعالى : ( فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) [ النساء : 175 ] ، وقال : ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) . [ ص: 135 ] [ المائدة : 16 ] ، وقال : ( والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة ) [ محمد : 5 ] ، والهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الجنة ، وقال تعالى : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار ) [ يونس : 9 ] ، وهذا تأويل الجبائي .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : الهدى بمعنى التقديم ، يقال : هدى فلان فلانا ؛ أي قدمه أمامه ، وأصل هدى من هداية الطريق ؛ لأن الدليل يتقدم المدلول .

                                                                                                                                                                                                                                            وتقول العرب : أقبلت هوادي الخيل ؛ أي متقدماتها ، ويقال للعنق : هادي ، وهوادي الخيل : أعناقها لأنها تتقدمها .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : يهدي ؛ أي يحكم بأن المؤمن مهتد ، وتسميته بذلك لأن حقيقة قول القائل : هداه : جعله مهتديا ، وهذا اللفظ قد يطلق على الحكم والتسمية ، قال تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ) [ المائدة : 103 ] ، أي ما حكم ولا شرع ، وقال : ( إن الهدى هدى الله ) [ آل عمران : 73 ] ، معناه أن الهدى ما حكم الله بأنه هدى ، وقال : ( من يهد الله فهو المهتدي ) [ الكهف : 17 ] أي من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحق لأن يسمى مهتديا ، فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة ، وقد تكلمنا عليها فيما تقدم في باب الإضلال .

                                                                                                                                                                                                                                            قالت الجبرية : وههنا وجه آخر وهو أن يكون الهدى بمعنى خلق الهداية والعلم ، قال الله تعالى : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [ يونس : 25 ] ، قالت القدرية : هذا غير جائز ؛ لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه لا يصح في اللغة أن يقال لمن حمل غيره على سلوك الطريق كرها وجبرا ، أنه هداه إليه ، وإنما يقال : رده إلى الطريق المستقيم وحمله عليه وجره إليه ، فأما أن يقال : إنه هداه إليه ، فلا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لو حصل ذلك بخلق الله تعالى لبطل الأمر والنهي والمدح والذم والثواب والعقاب ، فإن قيل : هب أنه خلق الله تعالى إلا أنه كسب العبد . قلنا : هذا الكسب مدفوع من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن وقوع هذه الحركة إما أن يكون بتخليق الله تعالى أو لا يكون بتخليقه ، فإن كان بتخليقه ، فمتى خلقه الله تعالى استحال من العبد أن يمتنع منه ، ومتى لم يخلقه استحال من العبد الإتيان به ، فحينئذ تتوجه الإشكالات المذكورة . وإن لم يكن بتخليق الله تعالى بل من العبد فهذا هو القول بالاعتزال .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه لو كان خلقا لله تعالى وكسبا للعبد لم يخل من أحد وجوه ثلاثة ، إما أن يكون الله يخلقه أولا ثم يكتسبه العبد ، أو يكتسبه العبد أولا ثم يخلقه الله تعالى ، أو يقع الأمران معا ، فإن خلقه الله تعالى كان العبد مجبورا على اكتسابه فيعود الإلزام ، وإن اكتسبه العبد أولا فالله مجبور على خلقه ، وإن وقعا معا وجب أن لا يحصل هذا الأمر إلا بعد اتفاقهما ، لكن هذا الاتفاق غير معلوم لنا فوجب أن لا يحصل هذا الاتفاق ، وأيضا فهذا الاتفاق وجب أن لا يحصل إلا باتفاق آخر ؛ لأنه من كسبه وفعله ، وذلك يؤدي إلى ما لا نهاية له من الاتفاق وهو محال . هذا مجموع كلام المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            قالت الجبرية : إنا قد دللنا بالدلائل العقلية التي لا تقبل الاحتمال والتأويل على أن خالق هذه الأفعال هو الله تعالى ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، والوجوه التي تمسكتم بها وجوه نقلية قابلة للاحتمال ، والقاطع لا يعارضه المحتمل ، فوجب المصير إلى ما قلناه ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية