الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 189 ] لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي ] الفائدة الخامسة والخمسون : إذا سئل عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه ، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الإسلام قديما وحديثا .

قال أبو حاتم الرازي : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي محمد بن إدريس الشافعي : الأصل قرآن أو سنة ، فإن لم يكن فقياس عليهما ، وإذا اتصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح الإسناد به فهو المنتهى والإجماع أكبر من الخبر الفرد ، والحديث على ظاهره ، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به ، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها ، وليس المنقطع بشيء ، ما عدا منقطع سعيد بن المسيب ، ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال لأصل : لم ؟ وكيف ؟ وإنما يقال للفرع : لم ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح وقامت به الحجة ، رواه الأصم عن ابن أبي حاتم .

وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية " : ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل ، وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة ; فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة ، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها ، وهم صفوة الإسلام ، والمستقلون بأعباء الشريعة ، وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها ، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها ، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين لهم على الإضراب عن التأويل ، كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع ، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ، ويكل معناها إلى الرب تعالى .

وعند إمام القراء وسيدهم الوقوف على قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } من العزائم ثم الابتداء بقوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } .

ومما استحسن من كلام مالك أنه سئل عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به [ ص: 190 ] واجب ، والسؤال عنه بدعة ، فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : { لما خلقت بيدي } وقوله : { ويبقى وجه ربك } وقوله : { تجري بأعيننا } وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، انتهى كلامه .

وقال أبو حامد الغزالي : الصواب للخلف سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل والتصديق المجمل ، وما قاله الله ورسوله ، بلا بحث وتفتيش .

وقال في كتاب التفرقة : الحق الاتباع والكف عن تغيير الظاهر رأسا ، والحذر عن اتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة ، وحسم باب السؤال رأسا ، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث ، إلى أن قال : ومن الناس من يبادر إلى التأويل ظنا لا قطعا ، فإن كان فتح هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بدع صاحبه ، وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظواهر بغير برهان قاطع .

وقال أيضا : كل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب محض ، وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد ، فإن كان برهانه قاطعا وجب القول به ، وإن كان البرهان يفيد ظنا غالبا ولا يعظم ضرره في الدين فهو بدعة ، وإن عظم ضرره في الدين فهو كفر .

قال : ولم تجر عادة السلف بهذه المجادلات ، بل شددوا القول على من يخوض في الكلام ، ويشتغل بالبحث والسؤال .

وقال أيضا : الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف ، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها .

قال : وقال شيخنا أبو المعالي : يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك ، انتهى .

وقد اتفقت الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله ، وكلام الإمام الشافعي ومذهبه فيهم معروف عند جميع أصحابه ، وهو أنهم يضربون ويطاف بهم في قبائلهم وعشائرهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .

وقال : لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه ، وقال : لأن يبتلى العبد [ ص: 191 ] بكل شيء نهي عنه غير الكفر أيسر من أن يبتلى بالكلام ، وقال لحفص الفرد : أنا أخالفك في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله ، أنا أقول لا إله إلا الله الذي يرى في الآخرة والذي كلم موسى تكليما ، وأنت تقول : لا إله إلا الله الذي لا يرى في الآخرة ولا يتكلم .

وقال البيهقي : ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية فقال : أنا مخالف له في كل شيء ، وفي قوله لا إله إلا الله ، لست أقول كما يقول ، أنا أقول : لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب ، وذاك يقول : لا إله إلا الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى من وراء حجاب .

وقال في أول خطبة رسالته : الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه ، وفوق ما يصفه به الواصفون من خلقه ، وهذا تصريح بأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه - تعالى ، وأنه يتعالى ويتنزه عما يصفه به المتكلمون وغيرهم مما لم يصف به نفسه .

وقال أبو نصر أحمد بن محمد بن خالد السجزي : سمعت أبي يقول : قلت لأبي العباس بن سريج : ما التوحيد ؟ فقال : توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتوحيد أهل الباطل الخوض في الأعراض والأجسام ، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك .

وقال بعض أهل العلم : كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية ؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم { ولكم الويل مما تصفون } قال الحسن : هي والله لكل واصف كذبا إلى يوم القيامة ، وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } قال ابن عيينة : هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة ، وقد نزه - سبحانه - نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلا المرسلين فإنهم إنما يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به ، فقال تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين } وقال تعالى : { سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين } ويكفي المتأولين كلام الله ورسوله بالتأويلات التي لم يردها ، ولم يدل عليها كلام الله أنهم قالوا برأيهم على الله ، وقدموا آراءهم على نصوص الوحي ، وجعلوها عيارا على كلام الله ورسوله ، ولو علموا أي باب شر فتحوا [ ص: 192 ] على الأمة بالتأويلات الفاسدة ، وأي بناء للإسلام هدموا بها ، وأي معاقل وحصون استباحوها لكان أحدهم أن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتعاطى شيئا من ذلك ، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذرا له فيما تأوله هو ، وقال : ما الذي حرم علي التأويل وأباحه لكم ؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد ، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات ، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين ، وقالوا : كيف نحن نعاقب على تأويلنا وتؤجرون أنتم على تأويلكم ؟ قالوا : ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر من نصوصه بالمعاد ، ودلالة النصوص عليها أبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد ؟ وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة ، وكذلك القدرية في نصوص القدر ، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم ، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب ، وطمث الوادي على القري ، وتأولت الدين كله ، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده ، وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل ؟ وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل ؟ فمن بابه دخل إليها ، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل ؟ [ الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل ] وليس هذا مختصا بدين الإسلام فقط ، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخلها التأويل ، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد .

وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة ، ولكن سلطوا عليها التأويلات فأفسدوها ، كما أخبر - سبحانه - عنهم من التحريف والتبديل والكتمان ، فالتحريف تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم بها ، والتبديل تبديل لفظ بلفظ آخر ، والكتمان جحده .

وهذه الأدواء الثلاثة منها غيرت الأديان والملل ، وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد قط مثله في شيء من الأديان ، ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل .

وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بالتأويل ، ومن بابه دخلوا ، وعلى أساسه بنوا ، وعلى نقطه خطوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية