الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ) .

الظاهر أن قوله : ( ولبثوا ) الآية . إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم نياما في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم . قال مجاهد : وهو بيان لمجمل قوله تعالى : ( فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ) ولما تحرر هذا العدد بإخبار من الله تعالى أمر نبيه أن يقول : ( قل الله أعلم بما لبثوا ) فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب ; لأنه عالم ( غيب السماوات والأرض ) والظاهر أن قوله : ( بما لبثوا ) إشارة إلى المدة السابق ذكرها . وقال بعضهم : ( بما لبثوا ) إشارة إلى المدة التي بعد الإطلاع عليهم إلى مدة الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : لما قال : ( وازدادوا تسعا ) كانت التسعة منبهمة هي الساعات والأيام والشهور والأعوام ، واختلفت بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمره تعالى برد العلم إليه يعني في التسع وهذا بعيد ; لأنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق ، وحكى النقاش أنها ثلاثمائة شمسية ، ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع ، إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين . وقال قتادة ومطر الوراق : ( لبثوا ) إخبار من بني إسرائيل ، واحتجوا بما في مصحف عبد الله ، وقالوا : ( لبثوا ) وعلى غير قراءة عبد الله يكون معطوفا على المحكي بقوله : ( سيقولون ) .

ثم أمر الله نبيه أن يرد العلم إليه ( بما لبثوا ) [ ص: 117 ] ردا عليهم وتفنيدا لمقالتهم . قيل : هو من قول المتنازعين في أمرهم وهو الصحيح على مقتضى سياق الآية ، ويؤيده ( قل الله أعلم بما لبثوا ) جعل ذلك من الغيوب ، التي هو تعالى مختص بها . وقرأ الجمهور : مائة بالتنوين . قال ابن عطية : على البدل أو عطف البيان ، وقيل : على التفسير والتمييز . وقال الزمخشري : عطف بيان لثلاثمائة . وحكى أبو البقاء أن قوما أجازوا أن يكون بدلا من مائة ; لأن مائة في معنى مئات ، فأما عطف البيان فلا يجوز على مذهب البصريين ، وأما نصبه على التمييز فالمحفوظ من لسان العرب المشهور أن مائة لا يفسر إلا بمفرد مجرور ، وأن قوله إذا عاش الفتى مائتين عاما من الضرورات ولا سيما ، وقد انضاف إلى ذلك كون ( سنين ) جمعا . وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي مائة بغير تنوين ، مضافا إلى ( سنين ) أوقع الجمع موقع المفرد ، وأنحى أبو حاتم على هذه القراءة ، ولا يجوز له ذلك . وقال أبو علي : هذه تضاف في المشهور إلى المفرد ، وقد تضاف إلى الجمع . وقرأ أبي سنة وكذا في مصحف عبد الله . وقرأ الضحاك : سنون بالواو على إضمار هي سنون . وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه ( تسعا ) بفتح التاء ، كما قالوا : عشر .

ثم ذكر اختصاصه بما غاب في السماوات والأرض ، وخفي فيها من أحوال أهلها ، وجاء بما دل على التعجب من إدراكه للمسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين ; لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما ، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر . والضمير في ( به ) عائد على الله تعالى ، وهل هو في موضع رفع أو نصب ؟ وهل ( أسمع ) و ( أبصر ) أمران حقيقة أم أمران لفظا ؟ معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى ( أبصر ) بدين الله ( وأسمع ) أي : بصر بهدي الله وسمع فترجع الهاء إما على الهدى ، وإما على الله ذكره ابن الأنباري . وقرأ عيسى : أسمع به وأبصر على الخبر فعلا ماضيا لا على التعجب ، أي أبصر عباده بمعرفته وأسمعهم ، والهاء كناية عن الله تعالى .

والضمير في قوله ( ما لهم ) قال الزمخشري : لأهل السماوات والأرض من ( ولي ) متول لأمورهم ( ولا يشرك ) في قضائه ( أحدا ) منهم . وقيل : يحتمل أن يعود على أصحاب الكهف أي : هذه قدرته وحده ، ولم يوالهم غيره ؛ يتلطف بهم ولا أشرك معه أحدا في هذا الحكم ، ويحتمل أن يعود على معاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكفار ومشاقيه ، وتكون الآية اعتراضا بتهديد قاله ابن عطية . وقيل : يحتمل أن يعود على مؤمني أهل السماوات والأرض أي : لن يتخذ من دونه وليا ، وقيل : يعود على المختلفين في مدة لبثهم أي : ليس لهم من دون الله من يتولى تدبيرهم ، فكيف يكونون أعلم منه ؟ أو كيف يعلمون من غير إعلامه إياهم ؟ وقرأ الجمهور : ( ولا يشرك ) بالياء على النفي ، وقرأ مجاهد بالياء والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهه . وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد ابن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر : ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي .

ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ، ويتلو على معاصريه ما أوحي إليه تعالى من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم ، وأن ما أوحاه إليه ( لا مبدل ) له و ( لا مبدل ) عام و ( لكلماته ) عام أيضا ، فالتخصيص إما في ( لا مبدل ) أي : لا مبدل له سواه ، ألا ترى إلى قوله : ( وإذا بدلنا آية مكان آية ) وإما في كلماته أي لكلماته المتضمنة الخبر ; لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه ، وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدل ( لكلماته ) إشارة إلى تبديل المتنازعين في أهل الكهف ، وتحريف [ ص: 118 ] أخبارهم والملتحد الملتجأ الذي تميل إليه وتعدل .

التالي السابق


الخدمات العلمية