المعاصي بريد الكفر

0 1

من جميل كلام السلف عليهم رحمات الله: "المعاصي بريد الكفر".
والحديث هنا عن كل ذنب خلا الشرك، وهم في ذلك لا يقصدون أن ذنبا ما في نفسه كفر، فمن المعلوم عند أهل السنة أن اقتراف المعاصي بمفرده لا يخرج من دين الله، ولا يوقع صاحبه في الردة، يقول الطحاوي في عقيدته: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"، ثم عقب على ذلك بقوله: "ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
وذلك لأن أهل السنة يرون أن فعل المعاصي ـ ولقاء الله بها من غير توبة ـ متوعد عليه بالعذاب والعقاب الأخروي، وأنها تؤثر على الإيمان من حيث زيادته ونقصانه، لا من حيث بقاؤه وذهابه.

ومن المتفق عليه بين أهل الحق كذلك أن الإصرار "وهو البقاء على المعصية مع العلم بها دون استغفار أو توبة" لا يدل على الاستحلال، فكم من عاص تغلبه الشهوة، فيستمر على الذنب مع اعتقاده تحريمه، وكراهة قلبه له.. وقد يكون في قلب صاحبه من محبة الله شيء كثير رغم عصيانه؛ كما روى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله.
والإنسان يعلم هذا من نفسه، فقد يبتلى بذنب يقيم عليه، مع اعتقاده تحريمه، ورجائه التخلص منه، وكثرة دعائه لله أن يغفر له ويعفو عنه. وإنما التحذير من الإصرار كونه قد يقود إلى الاستحلال.

وإنما مقصود السلف من قولهم هذا أن المعاصي قد تكون طريقا إلى الكفر، وسببا موصلا إليه، لا أنها في ذاتها كفر، ولهذا قالوا: "المعاصي بريد الكفر، كما أن القبلة بريد الجماع، والنظر بريد العشق، والمرض بريد الموت". فيخشى على صاحبها الواقع فيها المصر عليها غير التائب منها أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله.
وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه باب ما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة، لقوله تعالى {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}.
قال ابن رجب في شرحه لصحيح البخاري: "مراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة، يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية، وبالوصول إلى النفاق الخالص، وإلى سوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك، كما يقال إن المعاصي بريد الكفر". [فتح الباري لابن رجب:1/181].

كيف تؤدى المعاصي للكفر
سبب ذلك أن الذنوب يجر بعضها بعضا، ويدعو بعضها إلى بعض، فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، كما أن من بركة الحسنة الحسنة بعدها. فتكثر عليه الذنوب فتهلكه، وقد حذر النبي أمته من ذلك فقال: (إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)[الطبراني والبيهقي].
فإما أن تهلكه كثرتها، فتغلب سيئاته حسناته فيهلك، وإما أن يتدرج به الشيطان من الصغائر إلى الكبائر، ومن الكبائر إلى أكبرها ومنها إلى الكفر. حتى يصدق فيه قول السلف رضوان الله عليهم فيهلك.

ثم إن من عقوبات المعاصي خذلان صاحبها، وأن يستزله الشيطان للوقوع في المخالفات، كما في قوله سبحانه: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا}[آل عمران:155]، أي إنما وقعوا فيما وقعوا فيه من المخالفة بسبب ذنوب جرهم إليها الشيطان حتى أوقعهم فيها.. وفيه دليل على أن للمعاصي تأثيرا في خذلان العبد أمام نفسه، وأمام عدوه.

والمعاصي قد تؤدي إلى الإعراض عن اتباع الحق والتولي عنه، كما قال الله تبارك وتعالى: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم}[المائدة:49].
أي إن تولوا عن اتباع الحق، فاعلم أنه عقوبة لبعض ما اقترفوه من الذنوب والمعاصي..
قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على أن المعاصي تجر الإنسان إلى الإعراض عن طاعة الله، لأن النفس إذا تعودت المعصية، والاستكبار عن طاعة الله، أدى ذلك إلى أن ترتكب ما هو أكبر.

ثم إن العبد إذا اعتاد المعصية واستمرأ الذنب وأكثر منه ضعف قلبه شيئا فشيئا، ونقصت معه قوة الإيمان ومحبة الرحمن، فتقل كراهية المعاصي ومنافرة القلب لها.. فينتج عن ذلك الاستهانة بها والتقليل من خطرها، لضعف المحبة وضعف المراقبة وقلة الحياء.

وقد يزداد الأمر فيتشرب قلبه ما أصر عليه من المعصية، فينتقل من مجرد الزلل إلى محبة الذنب والإصرار عليه، ثم الاحتيال للوصول إليه، ثم الألم والحزن على فواته، ثم ينمحي من قلبه الحياء منه فينتقل إلى المجاهرة، وربما إلى الدعوة إليه والتسبب في وقوع غيره فيه.. فيؤول أمره إلى أن ينحل من قلبه ما يجب عليه من اعتقاد تحريمه، فيستحل الذنب من كثرة إلفه وحبه له. ويجري المخالفة مجرى المباحات دون كراهة لها، أو خوف من عاقبتها، فينتقض إيمانه باطنا. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه.

الران والطبع
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المعاصي قد تكتنف القلب، وتحيط به حتى تغطيه وتملأه بالران، فقال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)[صحيح الترمذي].

أي أن الران يغطي قلبه حتى يطفئ نوره، فتعمى البصيرة، فيرى الحق باطلا والباطل حقا، والحسن قبيحا والقبيح حسنا، وهذا مصداق قوله تعالى: {كلا ۖ بل ۜ ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}[المطففين:14].. والآية وإن كانت في حق الكفار، إلا أنه صلى الله عليه وسلم ذكرها تخويفا للمؤمنين وتحذيرا من كثرة الذنوب حتى لا تسود قلوبهم كما اسودت قلوب الكفار.

قال ابن تيمية: "فالاستغراق في المعاصي أو الإصرار عليها قد يجعلها تحيط بصاحبها وتنبت النفاق في قلبه؛ حتى يغطي قلبه الرين، ويسد منه كل منافذ الخير دونما شعور منه حتى يسقط منه إما عمل القلب، فينتكس، ويبرر لصاحبه كل ما يفعله من الشر حتى يوقعه في استحلال المعاصي، وإما يسقط منه قول القلب فينكر بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لتبرير مقتضيات الهوى والشهوة".
وليس بعد تغليف القلب بالران إلا انتكاسه والطبع عليه والعياذ بالله.

والخلاصة
هي أن ركوب المخالفات والمنكرات والاعتياد عليها ربما يؤدي في النهاية إلى الانسلاخ من الدين، وهذا لا يحدث في يوم وليلة، وإنما شيئا فشيئا حتى يخرج المرء من الدين بالكلية، كما روى أبو نعيم في الحلية "عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قيل له: في يوم واحد تركت بنو إسرائيل دينها؟ قال: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء ركبوه، حتى انسلخوا من دينهم، كما ينسلخ الرجل من قميصه".

فالحذر الحذر من الذنوب، والمسارعة المسارعة إلى التوبة والإنابة إلى الله فهي سبيل الفلاح والنجاة {‏‏وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون}‏ [‏النور‏:31].

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة