حياتي: أنشودة الخلود في السِّيرة الذَّاتية

0 2

غالبا، حين تقع عيناك على كتاب يحمل عنوانا من قبيل: "من كذا إلى كذا"، فاعلم أنك أمام رحلة لا تقطع بالأقدام وحدها، وإنما تشقها الأرواح شقا؛ مغامرة طويلة، شاقة، محفوفة بالألم، معجونة بالصبر، والمشي حافيا فوق صخور الطرق الوعرة، والنظر إلى الأعلى دوما.

من هذه السير الملهمة: من البادية إلى عالم النفط لعلي النعيمي، ومن رعي الغنم إلى رئاسة اتحاد العلماء لأحمد الريسوني، و من المخيم إلى الصفحة الأولى لعبد الباري عطوان؛ كلها تحكي، بصيغة أخرى، قانون الحياة الخفي الذي جرى على لسان ابن عطاء الله السكندري: "من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة".

وحق على من تأمل في هذه السير، أن يدرك أن عيبة الفقر التي التصقت بأقدار بعضهم، إنما غدت لاحقا وسام مجد، وسطر بطولة، ولونت حياتهم بطابع الأسطورة، فالناس، بطبعهم، لا يرون أصحاب البدايات المحرقة إلا إذا عبروا الجسر الموحش إلى ضفة الخلود، فإذا عبروا، دانت لهم القلوب، وتعلقت بهم العيون.

ومع أن السير الذاتية تبدو في ظاهرها حكاية فردية، فإنها، في حقيقتها، رواية الإنسان وهو يكابد وجوده، ويؤسس لمعناه في عالم لا يهب المجد إلا لمن اقتحم مصاعبه، في السيرة الذاتية، تمتزج التجربة بالأدب، والفكر بالعاطفة، واختصار الأعمار الطويلة بسطور موجزة، ولذا، فكل سيرة عظيمة هي شاهد عيان من طراز رفيع؛ تحكي، وتوثق، وتستنطق الوجدان، وتثير دفائن الذاكرة، وتفتح الآفاق على مدى لا ينقضي.

بعض الحوادث الصغيرة التي يسجلها الأدباء عن طفولتهم، لو وقعت لغيرهم، لمحتها الأيام كما تمحو الريح آثار العابرين على الرمال، لكن الأديب، بما أوتي من حس مرهف ونفس يقظة، يعيد رسم ملامحها كما وقعت، ويرتقي بها إلى مصاف الخلود، ومن هنا، تصبح السيرة الذاتية فنا راقيا لا يضاهيه فن، حين يتولاها قلم وقاد.

من بين السير التي تركت أثرا بالغا في نفسي: "مذكرات القاضي الرئيس عبد الرحمن الإرياني"؛ فهي بوابة لفهم التاريخ اليمني الحديث، وتقلباته، وتركيبته المعقدة، مع أدب جم، وسرد لا تعرج فيه، وفيه صورة لصبر الرجال في رياح السياسة والمحن. ولعلي قد أبنت عن حبي لرائعة طه حسين "الأيام"، ولذا سأتجاوز الإشادة بها، والحديث عنها، فهي مما ارتقى، وسارت مسار الشمس، لتكون أحد تحف السير الذاتية العربية الخالدة.

وتثيرني أيضا الكتابات عن السير الذاتية، فكل ما يقرب منها يعجبني، وهذا على سنن العرب، وهديهم، إذا أحبوا شيئا أحبوا كل ما يقرب إليه، ويتلقي معه، ولعل مما يحضرني الآن كتاب: "عبروا النهر مرتين" للأستاذ الأديب حسين بافقيه، فقد كتبه بلغة رصينة من بقايا الكبار، وديباجة متينة نادرة، وكتب فصلا آسرا عن العلامة المحقق إحسان عباس، لو قرأه عباس نفسه لاهتز فرحا. وكذا صنيع الأستاذ محمد عبد العزيز القارئ الكاتب العاشق المحب المتيم بكتب السير، فقد استطاع أن يترك أثره في هذا الضرب الأثير من الكتابة، بما خلفه من ثلاثية مجيدة، حري أن تقرأ ويفاد منها.

وتجربتي مع السير الذاتية لم تكن محض اطلاع عابر، كانت عشقا دفينا تكرس مع الزمن، حتى صار لها في وجداني مقام رفيع، ولا أبالغ لو قلت إن كتاب "حياتي" لأحمد أمين كان البوابة النبيلة التي أدخلتني دولة السير، فله عندي منزلة خاصة. وهو من السير الرفيعة التي تقرأ كأنها أنشودة العقل العربي الحديث، في رحلته الشاقة من ظلمة الجهل إلى نور العلم، كتاب كتبه صاحبه وهو يجر وراءه خطى مثقلة بالألم، لكنه صاغه بلغة حانية، قادرة أن تبني جسرا من قلبه إلى قلوب القراء إلى ما شاء الله.

قبل بضعة أعوام، كنت أبحث عنه دون جدوى، حتى استعرته من أحد أصدقائي، ثم شغلتني عنه قراءات أخرى، مكث في مكتبتي طويلا دون أن أقرأ منه إلا قليلا، حتى استرده صاحبه، معتذرا بعتاب لطيف.

وذات مرة، استمعت مع صاحبي إلى حديث بديع عن "حياتي"، فاشتعل الشوق في صدري إليه من جديد، طلبته، فتمنع صاحبي، قائلا: "كان بيدك فأعرضت عنه، فلا سبيل لك إليه الآن"، وذابت الأمنية في القلب حتى طال انتظارها، إلى أن كنت أطوف ذات يوم بمكتبة قديمة، فوقعت عليه في ركن مهمل، فابتعته بثمن زهيد لا يوازي فرحتي بظفر القلب بكنزه المنشود.

وقد قذف في روعي من قراءتي لكتب السير: أن السعي نحو الغاية لا يليق به انتظار تصفيق العابرين، فالمرء إنما يبتلى أول الطريق بقلة الأنصار وكثرة العوائق، ولو انتظر حفاوة الناس لضل المسير، وانطفأ في أول مفترق، فالمتشبث بأهداب المنى العالية، لا ينبغي أن يلتفت إلى المدائح ولا أن يقف عند الذم؛ فالنهاية وحدها هي التي تهب للرحلة معناها، والناس - بطبعهم - لا يعشقون السير الشاق، بل يعشقون الفعل البطولي في لحظته الختامية.

ولكتاب "حياتي" حكاية أخرى مع المصادفات الجميلة، فقد وقفت ذات يوم في زمن مضى على كتاب آخر يحمل العنوان ذاته: "حياتي"، لإيزادورا دونكان، الفنانة الاستعراضية الأمريكية الشهيرة، التي سعت إلى تأسيس مدرسة جديدة في التعبير الحركي، متأثر بالفن الإغريقي القديم، وإن اجتمع الاسمان في غلاف، فبين الكتابين بون بعيد.

"حياتي" لأحمد أمين، حكاية عقل تفتق فوق صخور الحياة، وسيرة فكر جاهد ليشق لنفسه دربا وسط العوائق، يحكي هموم المعرفة، وعناء النشوء، وتكوين الذات من فتات الحلم وغبار الواقع. والكتاب، غاية في الإمتاع، غزير بالصدق، حلو المذاق، يجمع بين العذوبة والسلاسة، ويرتقي -عند من أحسن تأمله- إلى ذروة الإبداع في فن السيرة الذاتية.

وليس كتاب إيزادورا من هذا المقام في شيء؛ لعل السبب يعود إلى رهق الترجمة عن لسانها الأصلية، أو -وذلك أرجح عندي- إلى ميولي المكين نحو عالم أحمد أمين المعرفي والفكري، ونفوري التام من أجواء إيزادورا الصاخبة المترجرجة، ومع أنني كنت على خلاف كامل مع أجواء سيرتها، فإنني تعلمت منها دروسا في الإصرار، وكسر القيد، وتحويل الألم إلى وقود للانطلاق، فالهدف الذي يسكن القلب - أيا كان اختلافنا حوله - هو ما يصنع الفرق بين حياة ضائعة وحياة يشار إليها بالبنان.

ولأن المصادفات في حياة الكتب لا تقل غرابة عن مصادفات البشر، فقد راودني خاطر خفي: ترى، هل وقعت نسخة الكتاب الإنجليزية بين يدي أحمد أمين قبل ظهور الترجمة، وهو الذي ألم بلغة الإنجليز حتى قرأ بها؟

فقد نشر كتاب إيزادورا دونكان سنة 1927م، ثم ترجم إلى العربية ضمن سلسلة الجوائز بمصر عام 1968م، لا سبيل إلى الجزم بشيء، وربما كان محض تشابه عنوانات، لا أكثر.
إن السيرة الذاتية الحقة ليست استعراضا للذكريات، ولا سردا لأحداث العمر المنفرطة كيفما اتفق؛ إنما هي، حين تصدق، مرآة الإنسان في أشرف حالاته: حال الجهاد، والنمو، والكفاح ضد السقوط.

وحين تطوي آخر صفحة من "حياتي" أو "الأيام" أو أي سيرة صادقة، لا تشعر أنك تغلق كتابا، وإنما تطوي سفرا من أسفار الحياة ذاتها، تشعر كأنك عبرت نهرا طويلا من الألم والضياء معا، تخرج، وفي أعماقك صدى خفي يهمس:

"يا سائري على دروب الأيام، لا تطفئ مصابيح القلب، ففي عاقبة المسير، دوما، تولد شموس الذين ساروا حفاة، فأوقدوا بنعالهم جمر التاريخ!"

فلتكن السيرة هادية، ولتكن الحياة أبدا سعيا لا يعرف الانطفاء.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة