القصاص: عدلٌ يحفظ التوازن في المجتمع

0 0

يعد القصاص من أهم الأحكام الشرعية في الإسلام التي شرعها الله لحفظ الحقوق، وتحقيق العدل، ومنع الجريمة، وردع الظالم. وهو حكم يتعلق بالجرائم التي تمس النفس أو الجسد، كالقتل أو الجرح، ويقوم على مبدأ "العين بالعين"، لكن ضمن ضوابط صارمة تحفظ للإنسان كرامته وتمنع التعدي أو الغلو في الانتقام.
مفهوم القصاص
القصاص في اللغة هو القود والقتل بالقتل، والجرح بالجرح، وهو بنفس المعنى في الشرع فهو معاقبة الجاني بمثل ما فعل، إن قتل يقتل، وإن جرح يجرح. قال تعالى:
{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} )البقرة: 179(.
هذه الآية الكريمة توضح أن القصاص ليس فقط للردع، بل للحفاظ على الحياة ذاتها. فحين يعلم المجرم أن العقوبة ستكون مماثلة لفعله، سيفكر ألف مرة قبل أن يقدم على الجريمة.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (ومن هدي القرآن للتي هي أقوم: القصاص، فإن الإنسان إذا غضب وهم بأن يقتل إنسانا آخر فتذكر أنه إن قتله قتل به، خاف العاقبة فترك القتل، فحيي ذلك الذي يريد قتله، وحيي هو لأنه لم يقتل فيقتل قصاصا، فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا، قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} (البقرة/ 179) ، ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديما وحديثا قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم بكتاب الله، لأن القصاص ردع عن جريمة القتل، كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفا.
وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة، لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع، كله كلام ساقط، عار من الحكمة، لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل.

ومن الآيات التي تدل على مشروعية القصاص وفضله ما يلي:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) (178)

وقوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)} (البقرة).
وقوله تعالى: { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44) وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45) (المائدة).

وقد طبق النبي صلى الله عليه وسلم القصاص على نفسه قبل أي أحد، قال أسيد بن حضير- رضي الله عنه-:بينما هو يحدث القوم- وكان فيه مزاح- بينا يضحكهم فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود، فقال: أصبرني (يطلب القصاص). فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اصطبر"، قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه (خصره) ، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله. (رواه أبو داود).

وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحا (حليا) كانت عليها، ورضخ رأسها (كسرها)، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتلك؟ فلان؟" لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت: أن لا، فقال: "ففلان؟". لقاتلها، فأشارت: أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرضخ رأسه بين حجرين.

من أقوال السلف في القصاص:
قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في خطبة له: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي، أقصه منه..
وقال له عمرو بن العاص- رضي الله عنه-: لو أن رجلا أدب بعض رعيته أتقصه منه؟. قال: إي والذي نفسي بيده أقصه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه.
وقال: لو تمالأ أهل صنعاء على قتل رجل لقتلتهم به.
وهذه أقوال منه رضي الله عنه تدل على مدى حرصه على حماية النفس البشرية، وتحقيق العدل مهما كانت هوية القتلة أو عددهم.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: القصاص حياة لمن عقلها، وردع لمن جهلها. في إشارة إلى أن القصاص ليس مجرد عقوبة، بل نظام إصلاحي يحفظ الأرواح.
قال الشافعي رحمه الله: القصاص عدل الله بين عباده، به يحيا العدل، ويسلم الناس.
وهو يؤكد هنا أن القصاص مظهر من مظاهر عدل الله في الأرض، به تصان الحقوق.

من فوائد القصاص للفرد
1. تحقيق العدل الشخصي: يمنح القصاص الشعور بالإنصاف لأهل المجني عليه، مما يخفف من ألم الفقد والظلم.
2. ردع المعتدين: يعلم الفرد أن حياته أو سلامته الجسدية لها قيمة، وأن أي اعتداء عليه لن يمر دون حساب.
3. حفظ الكرامة الإنسانية: القصاص لا يسمح بمرور الجريمة دون عقوبة، ما يعزز كرامة الإنسان ويحفظ قيمته.
من فوائد القصاص للمجتمع
1. الأمن المجتمعي: تطبيق القصاص يجعل المجتمع أكثر أمنا، لأن الرادع موجود بقوة القانون والشرع. وقد كانت العرب تقول: القتل أنفى للقتل.
2. منع انتشار الجريمة: المجتمعات التي تطبق القصاص بإنصاف وعدل تقل فيها جرائم القتل والاعتداء. قال أبو العالية- رحمه الله تعالى-: جعل الله القصاص حياة. فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل.
3. حفظ النظام والحقوق: القصاص يحقق التوازن بين العقوبة والذنب، مما يرسخ فكرة أن لا أحد فوق القانون.
القصاص ليس انتقاما
من المهم الإشارة إلى أن القصاص في الإسلام ليس انتقاما أعمى، بل هو حكم قضائي يصدر بعد تحقيق دقيق، وتثبت فيه الجريمة بأدلة قاطعة، وتعطى فيه الفرصة لأهل القتيل للعفو أو أخذ الدية بدلا من القصاص، مما يظهر الجانب الإنساني والرحيم في الشريعة الإسلامية.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة