الثقافة وماهيتها: رؤية متجددة

0 2

تعد الثقافة أحد العناصر الأساسية التي تشكل هوية المجتمعات وتحدد مساراتها في الحياة، فهي ليست مجرد مجموعة من المعارف أو الفنون، بل هي عملية معقدة تشمل الأخلاق، والقيم، والتقاليد، والأفكار التي تتطور وتتجدد مع الزمن، إن مفهوم الثقافة يرتبط في اللغة العربية بمعنى الاستقامة والتقويم، فكما يعد تقويم الرماح ضروريا للمحاربة، فإن التثقيف هو ما يجهز الأفراد لمواجهة تحديات الحياة، الثقافة، إذن تمثل سلاحا يحسن من قدرات الفرد ويجعله أهلا للمشاركة الفعالة في المجتمع.

إن نمو الثقافة يشبه نمو الشجرة الباسقة، التي تستمر في النمو حتى بعد مغادرة من زرعها، وهذا النمو يعتمد على الأصول المتجذرة في الأرض، يقول الدكتور عبد الرحمن شهبندر:" فاللغة الحية مثل الشجرة الباسقة تعيش وتنمو حتى بعد موت من زرعها ... وإن كان هذا النمو متوقفا على تلك الأصول المنتشرة في الأرض ومرتبطا بالساق الصاعدة منها، وقد أجاد العرب كثيرا في نظرهم إلى التثقيف المعنوي: إنه سلاح يتذرع به الأعزل فيصير أهلا للكفاح".

ومما يساعد على تجذر الثقافة وتمكنها: الاهتمام بالتعليم، والتربية، صقل النشئ، وتعهدهم بالرعاية والأدب؛ وذلك يؤدي بالضرورة إلى تشكيل الفكر والثقافة معا.
إن التثقيف، بمعناه الأعمق، هو عملية حرث العقول، وتغذيتها بثمار العلم والأدب، بهدف صقل النفوس وتطويرها لتصبح مؤهلة للمشاركة الفعالة في المجتمع، ولعل من أبرز مظاهر التثقيف "التدميث" وهو أن يصل الإنسان لمرحلة دماثة الأخلاق، وهذا أيضا مشتق في الأصل من المكان الدمث إي الهين اللين المفروش بالرمل الطري، قال صاحب المثل (دمث لنفسك قبل النوم مضطجعا) يعني إزالة الحجارة الناتئة، والأشواك الواخزة، والحصى المبعثرة من مضجعك في البرية؛ لتنام نوما هانئا مطمئنا على الرمل الوثير، وكذلك أزل الخشونة البارزة، والفظاظة الموحشة، والعيوب الشائنة، من ابنك بتدميث أخلاقه؛ ليصير رجلا؛ وليرتاح إليه الناس، ويأنسون بمنطقه وكلامه.

من المؤكد أن الثقافة لا تقتصر على الفنون والأدب، بل تشمل أيضا استثمار الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، فقد أشار الباحث الألماني (بارت) إلى أن الثقافة تعكس كيفية إدارتها للأرض واستثمارها، وأن القوى الإنتاجية هي التي تشكل الحياة الاجتماعية والثقافية، فكلما ارتقى مستوى الإنتاج، زادت رفاهية المجتمع، مما ينعكس إيجابا على ثقافته، كما أكد بعض الباحثين على أن نمط الحياة الاجتماعية يتأثر بوسائل الإنتاج المتاحة، مما يفسر تفوق المجتمعات الصناعية على الزراعية، والتي تظل بدورها أفضل من المجتمعات البدائية.

تظهر الثقافة بوضوح في الفروق بين الأفراد، حيث يتميز المثقف بالكلمات المنتقاة والأفكار المنظمة، بينما يظهر الجلف من خلال تصرفاته الثقيلة وأفكاره السطحية.
يقول الدكتور عبد الرحمن شهبندر: " تعاشر المثقف فلا تمل حديثه، وتتمنى لو يكتب لكما العيش معا ردحا من الزمن، وتصادف الجلف في حافلة أو في سيارة فتتمنى أن تنتهي السفرة؛ ولو بصدمة أو انخراق عجلة؛ لتخلص من سماع الحديث، ورؤية الحركات، والسكنات".
ومما لا ينبغي أن نغفل عنه أن التعليم وحده لا يكفي لضمان الثقافة، فالتأثيرات الأولية من التربية، والبيئة الاجتماعية، تلعب دورا حاسما في تشكيل الشخصية.

إن القابلية لتقبل الثقافة موجودة في جميع الأوساط، وهي الأساس الذي يتم بناء عليه مؤسسات التعليم والتربية؛ لذا فإن الثقافة تتطلب بيئة مزدهرة، حيث يمكن للفرد استثمار وقته، وجهوده في التعلم والإبداع.
إن العلاقة بين الثقافة والاقتصاد تبرز بوضوح، فالمجتمعات التي تعتني بشؤونها الاقتصادية وتطور صناعاتها غالبا ما تكون أكثر قدرة على تعزيز ثقافتها. فالمعامل والمصانع تلعب دورا مهما في رفع المستوى الأدبي والثقافي، حيث توفر فرصا للتعلم والعمل والإبداع، من جهة أخرى، فإن العزلة الاقتصادية قد تؤدي إلى نقص النشاط الفكري والروحي، مما يجعل الثقافة تتلاشى وتفقد قيمتها.

في هذا السياق، يجب أن ندرك أن الثقافة ليست مجرد ترف فكري، بل هي ضرورة اجتماعية تسهم في بناء مجتمع متماسك، فإذا أردنا أن نحقق ثقافة ذات قيمة تسهم في خدمة الحضارة، فلا بد من التركيز على العناية بالشؤون الاقتصادية، إن المجتمعات التي تعاني من الفقر والحرمان غالبا ما تجد نفسها في موقف ضعيف، حيث تصرف جهود الأفراد للحصول على احتياجاتهم الأساسية بدلا من تطوير أفكارهم ومهاراتهم الثقافية.

إن الثقافة تتطلب بيئة مزدهرة تتيح للأفراد استثمار وقتهم وجهودهم في التعلم والإبداع، لذا، ينبغي أن ننظر إلى الثقافة كعنصر أساسي في تشكيل مستقبل أفضل للجميع، فهي تجسيد لروح الأمة وهويتها، وهي المحرك الأساسي نحو التقدم والازدهار، ومن خلال تعزيز الثقافة، يمكننا أن نساهم في تحسين جودة حياتنا وتحقيق تقدم حقيقي في مجتمعاتنا، مما يسهم في بناء عالم أفضل للأجيال القادمة.

وفي تاريخنا الإسلامي لما ازهر الاقتصاد، وقام الأمراء بتحفيز الشعراء، والأدباء، وأنشئوا المراكز العلمية؛ كان ذلك إيذانا بنشاط ثقافي قيمي، وصل صداه إلى كل أرجاء المعمورة، وأورثنا مجدا مازلنا نتكئ عليه، ونفاخر به الأمم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة