- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:قضايا شبابية
في كتابه العظيم "رياض الصالحين" رتب الإمام النووي ـ رحمه الله ورضي عنه ـ أبوابه ترتيبا بديعا في غالب الكتاب لمن تأمله وتدبره، فمن ذلك أنه بوب بابا بعنوان "بيان كثرة طرق الخير"، ثم أتبعه بباب "الاقتصاد في العبادة"، ثم ثلث بباب "المداومة على الخير"..
وأئمتنا ـ رحمهم الله تعالى ورضي عنهم ـ كانوا علماء عاملين، وفقهاء فاهمين، وعبادا زاهدين، مع الإلمام التام بمقاصد الشريعة والدين، ولذلك لا يكتبون عبثا، ولا تضييعا للأوقات، ولا حبا للظهور، أو بيانا لسعة العلم والمعرفة والتحصيل، أو حتى إظهارا لحسن التأليف وجمال التوليف، وحسن السبك والأسلوب الأدبي الراقي.. إنما مؤلفاتهم في الحقيقة نشر للعلم، ودعوة إلى الله وإلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتبيين وتقريب معالم الدين للناس.
ومن عميق علمهم، اهتمامهم بالتبويب وتراجم الكتب والأبواب، كما هو حال إمام الدنيا محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه الذي لا مثيل له ـ بعد القرآن ـ والمشهور بصحيح البخاري..
إبداع الإمام النووي
بوب الإمام النووي بابا "في بيان كثرة طرق الخير".. وكأنه يدعو الناس لفعل الصالحات وكسب الحسنات، ويبين لهم أن من أراد فعل الخيرات وجد أشكالا وأنواعا وطرقا لا تكاد تحصى، منها ما يتعلق بالقلب، ومنها ما يتعلق اللسان، ومنها ما يتعلق بالجوارح، وقد تخير أحاديث الباب ونوعها ليدلل على هذا.
فبين أن صور العبادات وأشكالها كثيرة، وأن المستحسن للسالك أن ينوع فيما بينها ليدوم نشاطه وجده في المعاملة مع الله، وحتى لا تسأم نفسه وتمل من العبادة فتتركها وتنقطع عنها، فإذا مل الإنسان من عمل اشتغل بغيره، فأنفق أوقاته في مرضاه مولاه.
وقد أورد ـ رحمه الله ـ أنواعا من الأحاديث منها ما يشتمل على أعلى مراتب الأعمال وأشقها كالجهاد والحج، ومنها ما ينزل حتى يكون كإهداء المرق إلى الجيران أو فرسن الشاة "وهو ظلفها".. أو كسقي حيوان عطشان كالتي سقت الكلب، أو حتى إماطة الأذى عن الطريق، وما بين هذا وذاك أحاديث تشمل أنواعا كثيرة من العمل على اختلاف طبقاتها، فمن أراد فعل الخير فلن يعدم شيئا يفعله يناسب حاله ضعفا وقوة، أو فقرا وغنى، فلا مجال لمعتذر، ولا عذر لمتخلف.
ثم ثنی بعده بـ "باب في الاقتصاد في العبادة"، وهو التوسط فيها وعدم التشدد والتنطع وتحميل النفس ما لا تطيق.. إبقاء على النفس، ودفعا للملل عنها؛ فإن نفس السالك السائر إلى الله أشبه ما تكون بدابة المسافر، إذا أثقل عليها في الأحمال، وأجهدها في السير للمسافات الطويلة دون راحة انقطعت به في أثناء الطريق فأهلك ظهره ولم يبلغ قصده (إن المنبت لا أرضى قطع ولا ظهرا أبقى)، وإن هو رفق بها وماشاها حملته إلى وجهته ومراده.. وكذلك النفس إنما هي مطية العبد كما قال الحسن: "نفوسكم مطاياكم، فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم".. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، وقال: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر فليقعد)[متفق عليه]، وقال لعبد الله بن عمرو ـ وكان يقوم كل ليلة، ويصوم كل يوم ـ: (إنك إن فعلت تفهت نفسك "يعني كلت وتعبت، وهجمت عينك "يعني غارت من التعب والضعف". وقال لأبي الدرداء: (إن لنفسك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولضيفك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا؛ فأعط كل ذي حق حقه)[رواه البخاري]. وقال للثلاثة الذين قالوا ما قالوا، وألزموا أنفسهم بما يخالف الفطرة ولا تطيقه النفس: (لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)[البخاري].
وخلاصة الكلام، هو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا)[البخاري].. ومما جاء في معانيه: "الزموا التوسط والاعتدال في الأمر من غير إفراط ولا تفريط، تبلغوا مقصودكم من مرضاة ربكم، ودوام العمل في عبوديته، وإلا مللتم وانقطعتم".
قال الإمام النووي: "استعينوا على طاعة الله عز وجل بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذون العبادة ولا تسأمون، وتبلغون مقصودكم".
يريد الله لكم اليسر
إن تعذيب النفس لم يكن أبدا من مقاصد العبادة، وإنما يريد الله بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، والتعبد بما لا منفعة فيه ولا مصلحة من ورائه، وإنما فيه أذى للنفس، تكلف ممنوع، ولذلك لما نذر أبو إسرائيل الإنصاري رضي الله عنه، أن يقف في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم.. نهاه النبي عنها كلها، (مروه فليتكلم وليقعد وليستظل، وليتم صومه). فنهاه عنها كلها إلا الصوم؛ لأنها لا منفعة فيها، وليست هي بقربة مشروعة أصلا.. وأفضل العبادة ما كان هديا قاصدا، وشر الأمور المحدثات البدائع.
ثم أتبع النووي رحمه الله ذلك بـ "باب في المحافظة على الأعمال الصالحة وترك التهاون بها والتساهل فيها"، وكأنه يقول: إن ما ذكرناه من كثرة طرق الخير، إنما هو دعوة للعمل وبيان لسعة أبواب الخير لمن أراد العمل، ثم أتبعناه بباب القصد في العبادة، لا بقصد التهاون فيها والترك لها، وإنما لمنع التشدد والتعمق والتنطع، وتحميل النفس ما لا تطيق، فإن القصد وعدم التشدد سبيل للمداومة على الأعمال والمحافظة عليها، ومنع الانقطاع.. وهذا مما يحبه الله تعالى ورسوله "فإن أحب العمل إليهما أدومه وإن قل".
يقول الإمام المناوي في شرحه لرياض الصالحين: "وقد سبق المصنف لهذا الترتيب الحافظ البخاري، فعقب "باب ما يكره من التشديد في العبادة" الذي عبر عنه المصنف هنا بالاقتصاد فيها بباب "ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه" الذي عبر عنه المصنف هنا بباب المحافظة على الأعمال، فاستحسنه الحافظ ابن حجر لما ذكرناه آنفا"[دليل الفالحين].
والمقصود من هذا الكلام هو الترغيب في فعل الخير، والقصد في العمل وعدم الإفراط والتعمق والتشدد، دون تساهل أو تهاون، وأن يكلف الإنسان ما يطيق حتى يداوم عليه، فإن أحب الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه.
وفقنا الله وإياكم لمرضاته، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.