- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:خطب الجمعة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102).. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد، أيها المسلمون:
في حياة كثر فيها التوتر، وضاقت فيها الصدور، أصبحنا في حاجة ماسة إلى التخلق بزينة العقل، وميزان القوة، ورفعة النفس، ألا وهو خلق الحلم..
والحلم هو ضبط النفس عند الغضب، وكفها عن الرد على الإساءة مع القدرة على ذلك، ابتغاء للأجر من الله، قال الله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}(فصلت:34).
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يضرب به المثل في الحلم وفي عظيم الخلق، وقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من أساء إليه، وجهل عليه، فكان يحلم ويعفو ويحسن مع القدرة على من أساء إليه، يأسر بحلمه القلوب، ويتلطف مع أناس تعمدوا الإغلاظ له، وكان لا ينتصر لنفسه أبدا، ولا يغضب إلا إذا انتهكت محارم الله.
فتعالوا بنا أيها الإخوة الكرام، نعيش في خطبتنا اليوم في ظلال سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، مع هذا الخلق العظيم الذي أصبح عملة نادرة، ونرى كيف تجلى هذا الخلق في مواقف كثيرة من حياته صلى الله عليه وسلم.
قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها ورأيتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين: يسبق حلمه جهله (غضبه)، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما.. فأراد أن يتأكد من وجود هاتين العلامتين في النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه وقال له: "يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرا معلوما من حائط (بستان) بني فلان إلى أجل كذا وكذا، فبايعني، فأعطيته ثمانين مثقالا من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا.. قال زيد: فلما كان قبل محل الأجل (السداد) بيومين أو ثلاث أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ فقلت له: ألا تقضيني (تعطيني) يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب لمطل (تسوفون في سداد الدين)، ونظرت إلى عمر وإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير (من شدة غضبه) ثم رماني ببصره فقال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتصنع به ما أرى؟!! فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون ثم قال: يا عمر أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة (المطالبة بالحق)، اذهب به وأعطه حقه، وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته (أخفته)، قال زيد: فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة يا عمر؟ فقال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما روعتك. قلت: وتعرفني يا عمر؟ قال: لا من أنت؟ قلت: زيد بن سعنة، قال: الحبر (عالم اليهود)؟ قلت: الحبر، قال: فما دعاك أن فعلت برسول الله ما فعلت وقلت له ما قلت؟ قلت: يا عمر لم تكن من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله (غضبه)، ولا يزيده الجهل عليه إلا حلما، فقد أخبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا) رواه ابن حبان.
فمن صفات نبينا صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، ومن علامات ودلائل نبوته المذكورة في الكتب السماوية السابقة فبل تحريفها: أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيد شدة الجهل عليه إلا حلما..
ومن المواقف النبوية في الحلم ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني (ثوب) غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء). وهذا من روائع الأمثلة في حلمه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، وصفحه وعفوه الجميل، فقد حلم على من جهل عليه، وضحك في وجهه، وأمر له بعطاء صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم الأمثلة في حلمه صلوات الله وسلامه عليه: عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله جميعا، ولكنه صلى الله عليه وسلم حليم رفيق رحيم، يرجو ـ مع إيذاء قومه له ـ إسلامهم، وإسلام ذرياتهم.. ففي أشد يوم مر به صلى الله عليه وسلم وهو يوم الطائف، بعث الله عز وجل له ملك الجبال ليطبق على من آذاه الجبال، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) رواه البخاري.
فانظر وتأمل ما في هذا القول من حسن الخلق وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلم على السكوت عنهم، بل عفا عنهم، وأشفق عليهم ورحمهم، ودعا لهم، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: "فإنهم لا يعلمون"..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..
أما بعد عباد الله
الحلم ليس خلقا فحسب، بل هو مفتاح لبناء إنسان قادر على مواجهة تحديات الحياة بحكمة وصبر، فلنحرص عليه في بيوتنا، وطرقنا، وأماكن عملنا، ومجتمعاتنا.. وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على فضل الحلم، منها قوله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة). وقال صلى الله عليه وسلم: (التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله، وما من شيء أحب إلى الله من الحلم).
ولأهمية الحلم في الحياة للوالد مع ولده، والمعلم مع من يعلمه، وللمتعلم مع من يتعلم منه، وللزوج مع زوجته، والزوجة مع زوجها، وفي الحياة كلها، أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، ونهى وحذر من الغضب فقال لرجل طلب منه وصية: (لا تغضب، فردد مرارا قال: لا تغضب)، وقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). أي: لا تظنوا أن الرجل القوي هو ذلك الرجل الذي يتمتع بقوة بدنية يستطيع بها أن يصرع الآخرين، وإنما الرجل القوي حقا، هو الرجل القوي في إرادته، الذي يستطيع أن يتحكم في نفسه عند الغضب، ويكظم غيظه ويتحلم، ويمنع نفسه عن تنفيذ ما تدعوه إليه من إيذاء الناس بالشتم والضرب والعدوان، وغير ذلك من أنواع الإيذاء.
وقد رغبنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحلم ومعه العفو عند المقدرة بقوله: (من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخير من الحور العين ما شاء)..
إن كل حليم حفظت له هفوة، أو عرفت عنه زلة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يزيد مع كثرة الأذى إلا صبرا، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما، فقد كان أحلم الناس، يتجاوز عن المسيء ويحسن إليه..
ما ذا أقول إذا وصفت محمدا عجز البيان وحلمه لا يفقد
لا تضربن به في حلمه مثلا فما له في البرايا يعرف المثل
فما أحوجنا إلى دخول روضة الحلم النبوي، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في حلمه، بل في أخلاقه كلها، ففي ذلك السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب:21).
هذا، وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم كما أمركم ربكم: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56).

المقالات

