في رَوْضة الرفْق النَبَوي

0 5

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد أيها المسلمون:

خطبتنا اليوم عن خلق هام وعظيم، قل في زماننا، ويحتاج إليه الناس في بيوتهم، وفي أعمالهم، وفي طرقاتهم، ومع أولادهم، بل حتى مع أنفسهم.. إنه خلق الرفق، وما أدراك ما الرفق؟!
الرفق هو اللين في القول، والتلطف في التعامل، والحكمة في التوجيه، والبعد عن العنف والشدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) رواه مسلم.
ومن المعلوم أن الله تعالى جمع في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري، وعظيم الخصال وكريم الصفات، وما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتدحه ربه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم:4). ومن عظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم: رفقه الذي وسع وشمل القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمؤمن والكافر.. وقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم الرفق في النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه واضحا جليا، وواقعا عمليا، حتى وصفه مالك بن الحويرث رضي الله عنه بقوله: "وكان رحيما رفيقا".

والرفق في حياة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم يدخل في تعامل الإنسان مع نفسه، ومع زوجته وأهله وأولاده، ومع الجاهل والعاصي، ومع أعدائه وخصومه.. فتعالوا بنا أيها الإخوة الكرام نتجول في روضة الرفق النبوي من خلال بعض مواقفه في حياته، ومن ذلك:
عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه (يمشي بينهما معتمدا عليهما لضعفه)، قال: ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب) رواه البخاري.
وزار صلى الله عليه وسلم رجلا من المسلمين قد أضعفه المرض حتى صار ضعيفا جدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه) رواه مسلم. وفي ذلك دلالة على أنه ينبغي على الإنسان للعبد أن يترفق بنفسه ولا يطلب لنفسه البلاء.

والجاهل والمخطئ أحيانا لا يشعر أنه أخطأ، فينبغي أن نزيل الغشاوة عن عينيه ـ برفق ـ ليعلم أنه أخطأ، ومما لا شك فيه أن الواقع في الخطأ والإساءة له حق علينا، يتمثل في نصحه وتوجيهه، فمن حق أخيك عليك إذا وقع أن تأخذ بيده برفق لتقيمه، لا أن تهيل عليه التراب، فالله عز وجل يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة والعنف.
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا بال في المسجد، فقام الصحابة ليمنعوه وهو يتبول، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (دعوه ـ اتركوه ـ، وأريقوا على بوله دلوا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري.
وإذا نظرنا في حالنا وواقعنا فسنرى: كم من الناس إذا رأى خطأ من أحد انفجر غاضبا في وجهه، وربما أهانه أمام الناس! فهل هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحكمة والأخلاق؟!

بل انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه شاب وهو جالس مع أصحابه في المسجد يستأذنه في أمر عجيب وغريب، لا يمكن أن تتخيله أو تتصوره، جاءه يستأذن في الزنا!! فقام الصحابة ليضربوا هذا المستهتر بالحرمات، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد نهى أصحابه، وما نهره أو ضربه أو طرده، بل قربه، وناقشه بالحجة والحكمة وبرفق، وقال له: (أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه لخالتك، لعمتك، والشاب يقول: لا، جعلني الله فداك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، لبناتهم، لأخواتهم.."، ثم دعا له بقوله: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) رواه أحمد. فانصرف ذلكم الشاب وخرج يقول: "أن أبغض شيء إليه هو الزنا"..
ما أحسن وأجمل التقويم بالرفق والحكمة للمخطئ والعاصي، بل والدعاء له الذي يشعره بالحرص عليه وحبه، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يغفل عنه الكثير من الآباء والأمهات والمربين.

وأما عن الرفق في البيت ومع الأهل والأولاد، فإنه ـ وللأسف الشديد ـ قد كثر في زماننا العنف الأسري، وسوء معاملة الأبناء، وقسوة الأزواج مع زوجاتهم، مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان رفيقا مع أهله في قوله وفعله ومعاملاته، وأوصى كثيرا بالرفق بهم ومعهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) رواه الطبراني. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق) رواه أحمد. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) رواه ابن ماجه.
وكان صلوات الله وسلامه عليه رفيقا رحيما لطيفا مع أولاده وأحفاده، فكان دائما يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما، وحمل أمامة بنت زينب رضي الله عنها في الصلاة رفقا بها، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم.
ولنا أن نتخيل بيتا يرفق فيه الزوج بزوجته، والزوجة بزوجها، ويرفق فيه الوالدان بأولادهما..
بيت ستسوده الرحمة، وتغشاه السكينة، وتتنزل عليه بركات السماء، لأنه بني على خلق يحبه الله ويرضاه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم..
أما بعد:
الرفق هو الأصل في المسلم، ولكن في بعض الحالات لا بد من الشدة مع الحكمة على من يستحق الشدة، فالرفق لا يعني الضعف ولا الذلة، بل هو رفق بحكمة ورحمة، ولهذا قيل: "لا تكن رطبا فتعصر، ولا يابسا فتكسر". وإذا كان الرفق مطلوبا في كل شيء، فإن هناك حالات ومواقف تستوجب الشدة، ولكن بميزان الحكمة، لا بالهوى والغضب والتعدي على ما أمرنا به.

عباد الله: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا، لين الجانب في القول والفعل، يدعو إلى الرفق في الأمر كله، ومع الناس جميعا، المؤمن والكافر، والصديق والعدو، والصغير والكبير، ولأهمية والرفق في حياتنا كأفراد ومجتمعات، أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فقالومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه). وقال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) رواه مسلم.
فيا من قسا قلبه على أولاده، ويا من أساء إلى أهله، ويا من ينفجر غضبا على أتفه الأسباب، تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه (جمله وكمله)، وما نزع من شيء إلا شانه (عابه وأنقصه)) رواه مسلم.
في البيت: لا تستقيم العلاقة بين الزوجين بالصراخ ولا الإهانة، بل بالرفق والحوار..
في التعليم والتربية: لا ينفع الضرب والتهديد، بل يفيد الرفق والحب والحوار..
في الدعوة: لا تؤثر الشتائم، ولا ينفع السباب، بل تؤثر الكلمة الطيبة برفق وحكمة..
فما أحوجنا إلى دخول روضة الرفق النبوي، والتحلي بالرفق في حياتنا كلها، مع أزواجنا وأولادنا، ومع أهلينا وأصحابنا، ومع من نعرف ومن لا نعرف، حتى مع من يختلف معنا، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة