في رَوْضةِ الرِفْقِ النَبَوي

0 0

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد فيا إخوة الإسلام:

خطبتنا وحديثنا اليوم بمشيئة الله تعالى مع حضراتكم عن خلق هام وعظيم، قل في زماننا، ويحتاج إليه الناس في بيوتهم، وفي أعمالهم، وفي طرقاتهم، ومع أولادهم، بل حتى مع أنفسهم.. إنه خلق الرفق، وما أدراك ما الرفق؟
الرفق هو اللين في القول، والتلطف في التعامل، والحكمة في التوجيه، والبعد عن العنف والشدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)..
ومن المعلوم أن الله تعالى جمع في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صفات الجمال والكمال البشري، وعظيم الخصال وكريم الصفات، وما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد امتدحه ربه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم:4). ومن عظيم أخلاقه صلى الله عليه وسلم: رفقه الذي وسع وشمل القريب والبعيد، والصديق والعدو، والمؤمن والكافر.. وقد عرف الصحابة رضوان الله عليهم الرفق في النبي صلى الله عليه وسلم ورأوه واضحا جليا، وواقعا عمليا، حتى وصفه مالك بن الحويرث رضي الله عنه بقوله: "وكان رحيما رفيقا"..

والرفق في حياة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم يدخل في تعامل الإنسان مع نفسه، ومع زوجته وأهله وأولاده، ومع الجاهل والعاصي، ومع أعدائه وخصومه.. فتعالوا بنا أيها الإخوة الكرام نتجول في روضة الرفق النبوي من خلال بعض مواقفه في حياته، ومن ذلك:

أولا: رفق الإنسان بنفسه:

عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه (يمشي بينهما معتمدا عليهما لضعفه)، قال: ما بال هذا؟! قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني، وأمره أن يركب)..
وزار صلى الله عليه وسلم رجلا من المسلمين قد أضعفه المرض حتى صار ضعيفا جدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعجله لي في الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! لا تطيقه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفاه).. وفي ذلك دلالة على أنه ينبغي على الإنسان للعبد أن يترفق بنفسه ولا يطلب لنفسه البلاء..

ثانيا: الرفق مع الجاهل والعاصي:
فالجاهل والمخطئ والعاصي أحيانا لا يشعر أنه أخطأ، فينبغي أن نزيل الغشاوة عن عينيه ـ برفق ـ ليعلم أنه أخطأ، ومما لا شك فيه أن الواقع في الخطأ والإساءة له حق علينا، يتمثل في نصحه وتوجيهه، فمن حق أخيك عليك إذا وقع أن تأخذ بيده برفق لتقيمه، لا أن تهيل عليه التراب، فالله عز وجل يعطي على الرفق ما لا يعطي على الشدة والعنف..
وفي الحديث الصحيح، أن أعرابيا بال في المسجد، فقام الصحابة ليمنعوه وهو يتبول، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (دعوه ـ اتركوه ـ، وأريقوا على بوله دلوا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).. وإذا نظرنا في حالنا وواقعنا فسنرى: كم من الناس إذا رأى خطأ من أحد انفجر غاضبا في وجهه، وربما أهانه أمام الناس! فهل هذا من هدي الإسلام؟ هل هذا من الحكمة والأخلاق؟!

بل انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاءه شاب وهو جالس مع أصحابه في المسجد يستأذنه في أمر عجيب وغريب، لا يمكن أن تتخيله أو تتصوره، جاءه يستأذن في الزنا!! فقام الصحابة ليضربوا هذا المستهتر بالحرمات، فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد نهى أصحابه، وما ضربه، ولا طرده، بل قربه، وناقشه بالحجة، وقال له: (أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه لخالتك، لعمتك، والشاب يقول: لا، جعلني الله فداك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، لبناتهم، لأخواتهم..)، ثم دعا له بقوله: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) حتى انصرف الشاب وخرج يقول: أن أبغض شيء إليه هو الزنا..
النصح والتقويم بالرفق والحكمة للمخطئ والعاصي، ودعوته وإقناعه بالحكمة، بل والدعاء له الذي يشعره بالحرص عليه وحبه، وهذا أمر ربما يغفل عنه الكثير من الآباء والأمهات والمربين..

ثالثا: الرفق في البيت، ومع الأهل والأطفال:
لقد كثر في زماننا العنف الأسري، وسوء معاملة الأبناء، وقسوة الأزواج مع زوجاتهم، مع أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان رفيقا مع أهله وأوصى كثيرا بالرفق بهم ومعهم.. فقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق).. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).. وكان صلوات الله وسلامه عليه رفيقا رحيما لطيفا مع أولاده وأحفاده، فكان دائما يقبل الحسن والحسين ويلاعبهما، وحمل أمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنها في الصلاة رفقا بها، وكان يزور الأنصار ويسلم على صبيانهم، ويمسح على رؤوسهم..
ولنا أن تتخيل بيتا يرفق فيه الزوج بزوجته، والزوجة بزوجها، ويرفق فيه الوالدان بأولادهما...
بيت ستسوده الرحمة، وتغشاه السكينة، وتتنزل عليه بركات السماء، لأنه بني على خلق يحبه الله ويرضاه..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:
الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم.. أما بعد أيها الإخوة الكرام:

الرفق هو الأصل في المسلم، ولكن في بعض الحالات لا بد من الشدة مع الحكمة على من يستحق، فالرفق لا يعني الضعف، ولا الذلة، بل هو رفق بحكمة ورحمة، ولهذا قال بعض السلف: "لا تكن رطبا فتعصر، ولا يابسا فتكسر.. وإذا كان الرفق مطلوبا في كل شيء، فإن هناك حالات تستوجب الشدة، ولكن بميزان الحكمة، لا بالهوى والغضب والتعدي على ما أمرنا به، قال الله تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}(التحريم:9)..

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رفيقا، لين الجانب في القول والفعل، يدعو إلى الرفق في الأمر كله، ومع الناس جميعا، المؤمن والكافر، والصديق والعدو، والصغير والكبير، ولأهمية والرفق في حياتنا كأفراد ومجتمعات، أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه) وقال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) رواه مسلم..
فيا من قسا قلبه على أولاده، ويا من أساء إلى أهله، ويا من ينفجر غضبا على أتفه الأسباب..
تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه (جمله وكمله)، وما نزع من شيء إلا شانه (عابه وأنقصه)).
في البيت: لا تصلح العلاقة بين الزوجين بالصراخ ولا الإهانة، بل بالرفق والحوار..
في التعليم والتربية: لا ينفع الضرب والتهديد، بل يفيد الرفق والحب والحوار..
في الدعوة: لا تؤثر الشتائم، ولا ينفع السباب، بل تؤثر الكلمة الطيبة برفق وحكمة..

فما أحوجنا إلى دخول روضة الرفق النبوي، والتحلي بالرفق في حياتنا كلها، مع أزواجنا وأولادنا، ومع أهلينا وأصحابنا، ومع من نعرف ومن لا نعرف، حتى مع من يختلف معنا، اقتداء بنبينا صلى الله عليه وسلم..
اللهم صل وسلم على السراج المنير والبشير النذير ...

 

مواد ذات صلة

المكتبة