النصيحة وأهميتها

0 0

الخطبة الأولى
 
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، أحمده - سبحانه - الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، الناصح لأمته الصادق الأمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102). أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في السر والعلانية، فإن السعيد من اتقى الله، وأقبل على مولاه فأكرمه ونعمه واجتباه..
معاشر المؤمنين:

النقص والخطأ والزلل من سمات البشر، لازم لهم، لا ينفك عنهم، ولا يتم تدارك وتصحيح ذلك إلا بفضل الله وبرحمته، ثم بنصح صادق يصلح به الخطأ، وتحسن به العاقبة.
ومن نعم الله التي أسبغها على عباده ما هيأ لهم - سبحانه - من أولئك الناصحين الصادقين، الذين يسدون إليهم أعظم الجميل، حين يذكرونهم بالله فيحسنون التذكير، ويبصرونهم بخفي عيوبهم، فيحكمون التبصير، ويقفونهم على مواطن العلل وأسباب الآفات وبواعث الهلكات، فيبلغون من ذلك أوفر حظ من التوفيق، ولا شك أن قبول النصيحة صفة حسنة وخلق كريم يتبين به كمال العقل، ونبل نفس، وسلامة سريرة..

عباد الله: 
التناصح بين المسلمين من معالم الدين، ومن حسن التعامل بين الناس أن يتناصحوا فيما بينهم بالمعروف، وبغير أن يحدثوا منكرا أكبر مما ينصحون به، مع إخلاص المحبة للمنصوح..
وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن عظم مقام النصح في دين الله وعن شرف منزلته وذلك في حديث عظيم هو من جوامع كلمه، فقال صلى الله عليه وسلم -: (إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة، إن الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول لله؟ قال: لله، ولكتابه، ولنبيه، ولأئمة المؤمنين وعامتهم) رواه مسلم.
فأما النصيحة لله: فتكون بتوحيده سبحانه في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، بالإيمان أنه سبحانه الخالق الرازق، المحيي المميت، الذي يربي الخلائق بنعمته، فلا قيام لها بغيره، وأنه على كل شيء قدير، وأن كل شيء إليه فقير، {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}(فاطر:15)، فلا حاجة به إلى أحد من خلقه، وكل الخلق فقراء إليه.. وبالإيمان أيضا أنه سبحانه المستحق لصرف جميع أنواع العبادة له وحده دون سواه، إذ لا معبود بحق إلا الله، وبالإيمان بما وصف به نفسه وما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل لصفاته، فإنه سبحانه لا ند له، ولا شبيه، {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى:11)، وكذلك بالخضوع والطاعة له ظاهرا وباطنا، وبالرغبة في محابه بفعل مراضيه، والرهبة من سخطه بترك معاصيه.. 
وأما النصيحة لكتابه: فبتعلمه وتعليمه، والعمل به وبما أنزل الله فيه، وبإقامة حروفه، وحفظ حدوده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، ونشر علومه، والدفاع عنه وحمايته من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين..
وأما النصيحة لرسوله: فبتعظيم حقه وتوقيره، وبمحبته وطاعته فيما أمرنا به، والانتهاء عما نهانا، ونصرته واتباع هديه، وإحياء سنته تعلما وتعليما وعملا، والاقتداء به في أقواله وأفعاله، وتقديم هديه على قول غيره كائنا من كان، ونبذ الابتداع في دينه، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7)، {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}(آل عمران:31)..
وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فبمعونتهم على الحق، وطاعتهم في المعروف، وتنبيههم وتذكيرهم برفق ولطف بأنسب الطرق على ما غفلوا عنه..
وأما النصيحة لعامة المسلمين: فبالشفقة عليهم، والسعي فيما يعود نفعه وصلاحه عليهم، وبنصحهم وتعليمهم ما ينفعهم، وكف الأذى عنهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة والشفقة بصغيرهم، وترك الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك مما فيه صلاح الناس في دينهم ودنياهم..
ومما يدل على عظم مقام النصيحة ولزومها وتأكدها وضرورة إشاعتها بين أبناء المجتمع المسلم: أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يشرط على من يبايعه على الإسلام النصيحة والتناصح. فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام فشرط علي: والنصح لكل مسلم، فبايعته على هذا) رواه البخاري.

عباد الله: إن النصيحة لن تكون بالغة مبلغها في التأثير إلا حين يكون الناصح صادقا مخلصا لله في نصحه، عاملا بما يأمر وينصح الناس به، وتاركا لما ينهى الناس عنه، عظيم الشفقة عليهم، مريدا لهم الخير، دالا لهم على سبل النجاة، حكيما عليما بأولويات الأمور، فلا يقدم ما حقه التأخير، ولا يؤخر ما حقه التقديم، قادرا على الموازنة الدقيقة بين المصالح والمفاسد، والمنافع والمضار، والعاجل والآجل، وأن يأخذ نفسه بالرفق في نصحه وفي شأنه كله، كما قال نبي الرحمة - صلوات الله وسلامه عليه -: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ) رواه ابن حبان، وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله) رواه البخاري.
فالرفق في الأمور كلها ومع الناس جميعا ـ وخاصة في النصيحة ـ، من جواهر الأخلاق الإسلامية، والله سبحانه وتعالى رفيق، يحب من عباده الرفق. قال ابن رجب رحمه الله: "وأما النصيحة للمسلمين: فبأن يحب الناصح لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم"..
والأصل في النصيحة أن تكون سرا، لأن نصيحة الناس في الملأ أمر لا ينبغي ولا يليق، بل هو بالتعيير أشبه من أن يكون نصيحة، وقد نبه العلماء على هذا المعنى، وبينوا أن الذي يتعين هو النصح سرا، ما أمكن، لئلا تصير النصيحة فضيحة، قال الفضيل رحمه الله: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين..

الخطبة الثانية

الحمد لله الولي الحميد، الفعال لما يريد، أحمده سبحانه وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صاحب النهج الراشد والرأي السديد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد، فيا عباد الله:

قال بعض السلف: "اعلم أن من نصحك فقد أحبك".. وهي كلمة صادقة معبرة عن واقع لا ريب فيه، فبالنصح يعرف الداء، ويوصف الدواء، ويسلم القلب والجسد، وتنتفي العلة، وبترك النصيحة تستر الآفات، وتستبقى العلل، فما تزال بالجسد والقلب حتى تهلكه..
ومن أصم أذنيه عن سماع النصيحة وأعرض عنها ورفضها، وأصر على خطئه ومعصيته، فذلك شأن كل مستكبر، يجمع بين الإصرار على الخطأ، والكبر على النصيحة برفضها، قال الله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد}(البقرة:206)..
فاتقوا الله - عباد الله -، واتخذوا من النصيحة منهجا وسبيلا لبلوغ الحياة الطيبة في الدنيا والسعادة والفوز في الآخرة، قال الله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب}(الزمر:18:17)..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56)، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة