- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:خطبة الجمعة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء:131].
أيها المسلمون:
من دلائل قدرة الله وعظيم سلطانه ما بثه في هذا الكون من آيات باهرة ونظام محكم، تشرق الشمس كل صباح من مشرقها، وتغيب كل مساء في مغربها، ويطل القمر في منازله حتى يعود كالعرجون القديم، وكل يجري في فلك لا يحيد عنه ولا يتخلف، قال تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون} [يس:38-40].
تأملوا في هذا الكون البديع، ففي كل زاوية منه آية شاهدة على عظمة الخالق جل وعلا. الشمس في ضيائها، والقمر في نوره، والنجوم في مواقعها، والليل والنهار في تعاقبهما، كلها دلائل على قدرة الله وخلقه وربوبيته، قال سبحانه: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت:37].
والله جل وعلا بقدرته يغير هذه السنن أحيانا لحكمة يريدها سبحانه، فيحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر، ليكون ذلك آية عظيمة تذكر العباد بقدرة خالقهم، وتنبههم من غفلتهم، وتخوفهم من عذابه. قال النبي ﷺ: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله، وكبروا وصلوا وتصدقوا) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري. وعند مسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا، وادعوا الله حتى يكشف ما بكم).
انظروا كيف عبر النبي ﷺ بقوله: (يخوف الله بهما عباده) أي: أن هذه الآيات جعلت لتذكير العباد بقدرة الله، وتخويفهم من عذابه، وتنبيههم من غفلتهم، فهي نذر رحمة قبل أن تكون نذر عذاب. قال الحافظ ابن حجر: "الحكمة من الكسوف تذكير العباد بما يذهلهم عن طاعة ربهم، ليبادروا إلى التوبة والإنابة".
فالكسوف والخسوف ليس مجرد ظواهر فلكية يتسلى بها المتفرجون، ويراقب أمرها الفلكيون، بل هي رسائل ربانية توقظ القلوب، وتفتح العيون، وتدعو إلى التفكر في قدرة الله القائل: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا} (الإسراء:59).
معاشر المسلمين:
في هذه الآية رسائل ربانية تذكر القلوب بأن هذا الكون خاضع لقدرة الله ومشيئته، ولو شاء الله لحجب عنا الشمس دهورا طويلة، أو غيب عنا القمر زمنا مديدا، فمن يأتينا حينئذ بليل نسكن فيه؟ ومن يأتينا بنهار نستضيء به؟ قال جل وعلا: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون} [القصص:71-72]. وما الكسوف والخسوف إلا تذكير يسير، يلفت أنظار العباد إلى ضعفهم وفقرهم، وأنهم أحوج ما يكونون إلى خالقهم جل وعلا {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله} [فاطر:15].
أيها المؤمنون:
لقد اعتاد الناس أن يروا الشمس في مطلعها والقمر في منازله دون أن يشعروا بعظيم النعمة، فإذا تغير هذا النظام وقفوا حائرين. وهنا يتجلى معنى قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران:190]. إنه تذكير بالقدرة الإلهية، وتنبيه أن من خلق هذه السنن قادر على قلبها وإفنائها متى شاء.
فليحذر العبد من الغفلة، وليعلم أن ما يقع من الآيات إنما هو تخويف وتنبيه، لا تسلية وعبث.
والمؤمن إذا رأى هذه الظواهر العظيمة تذكر اليوم الآخر حين يكور القمر، وتنكدر النجوم، وتذهب الشمس، قال الله تعالى: {فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر} [القيامة:7-10] إنه مشهد يقرب إلى القلوب صورة أهوال القيامة، ليبقى على استعداد لذلك اليوم العصيب.
معاشر العباد:
إذا وقع الخسوف أو الكسوف، فالسنة أن يفزع المسلمون إلى الصلاة والدعاء والتضرع والصدقة، كما فعل نبيكم ﷺ. وليس من شأن المسلم أن يقف متفرجا أو غافلا، بل عليه أن يعتبر ويتعظ ويلجأ إلى الله سبحانه، فذلك هو المقصود الأعظم.
وقد كان النبي ﷺ إذا رأى آية من آيات الله فزع إلى الصلاة، واشتد خوفه، روت عائشة رضي الله عنها، قالت: خسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة طويلة، ثم ركع فأطال، ثم رفع رأسه، ثم استفتح بسورة أخرى، ثم ركع حتى قضاها وسجد، ثم فعل ذلك في الثانية، ثم قال: (إنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى يفرج عنكم، لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدته، حتى لقد رأيت أريد أن آخذ قطفا من الجنة، حين رأيتموني جعلت أتقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، حين رأيتموني تأخرت) متفق عليه.
إن هذه الآيات الكونية رسالة من الله لعباده، تذكرهم بأن الدنيا زائلة، وأن وراءهم يوما عظيما، {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين:6] وتنكدر الكواكب، وتسجر البحار، ويجمع الأولون والآخرون، قال تعالى: {إذا السماء انشقت * وأذنت لربها وحقت * وإذا الأرض مدت * وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق:1-4].
نسأل الله أن يوقظ قلوبنا من الغفلة، وأن يجعلنا من المعتبرين بآياته، إنه سميع قريب مجيب.
الخطبة الثانية
أيها الإخوة المسلمون:
اتقوا الله تعالى، وكونوا على يقظة من أمركم، واعلموا أن هذه الآيات الكونية ما هي إلا رسائل رحمة من الله قبل أن تكون نذر عذاب، تنبه الغافل، وتوقظ اللاهي، وتعيد القلوب إلى بارئها.
كم من آيات تمر علينا في حياتنا ولا نعتبر بها! الموت يتخطف الأحبة من حولنا، والأمراض تتنوع، والفتن تكثر، والزلازل والفيضانات تتابع، ومع ذلك لا تزال قلوب كثير من الناس قاسية! فما أعظم حاجتنا إلى اليقظة قبل أن يدركنا الأجل، قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46].
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى استشعار معنى هذه السنن والآيات، وليكن لنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة، وفي سلفنا قدوة صالحة، ولنعتبر بآيات الله قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الاعتبار.
واذكروا -رعاكم الله- أن الغفلة عن هذه الآيات علامة ضعف الإيمان، فقد كان النبي ﷺ إذا رأى آية من آيات الله فزع إلى الصلاة ودعا ربه قائلا: (ربي سلم أمتي من النار) رواه الطبراني في "المعجم الكبير". فكيف بنا اليوم وقد شغل الناس بأنواع المشغلات والملهيات حتى صارت هذه الآيات تمر وكأن شيئا لم يكن؟!
فليحذر العبد من المعصية والغفلة، فإن الله تعالى ما غير أحوال الأمم السابقة إلا حين غيروا ما بأنفسهم، قال سبحانه: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11].
وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتذكروا أن من فضل الله علينا أن ينبهنا ويذكرنا وينذرنا ولو شاء لأنزل عذابه دفعة واحدة، كما فعل بالأمم الغابرة، قال تعالى عن فرعون: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم} [الذاريات:40] وقال سبحانه عن قوم عاد: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} [الذاريات:41) وقال عن ثمود: {فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون} [الذاريات:44].
فكونوا -رحمكم الله- من الشاكرين المعتبرين، واعتبروا بالآيات الصغرى، قبل أن تنزل بكم الآيات الكبرى، واغتنموا حياتكم قبل موتكم، وصحتكم قبل سقمكم، وفراغكم قبل شغلكم، كما أوصى النبي ﷺ.
ولنعتبر قبل أن نفقد الفرصة. ولنجعل من كل آية في الكون سلما إلى الإيمان، لا وسيلة إلى الغفلة. ولنتزود من هذه اللحظات بزاد التقوى والعمل الصالح، فإن الدنيا ظل زائل، والآخرة دار القرار.
اللهم يا حي يا قيوم، أيقظ قلوبنا من الغفلة، واجعلنا من المعتبرين بآياتك، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا ممن يعتبر بآياتك، ولا يغفل عن ذكرك .