سعة رحمة الله

0 0

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102). أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد: أيها المسلمون: 

ربنا تبارك وتعالى واسع الرحمة، عظيم المغفرة، حليم ستير، عفو رحيم، فتح باب الرجاء على مصراعيه لكل قلب تائب، وفؤاد نادم، فقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}(الزمر:53).
الله عز وجل أرحم الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وقد خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فجزأها إلى مائة جزء أو نوع، فجعل عنده تسعة وتسعين جزءا يرحم بها عباده يوم القيامة، وجعل بين خلقه وعباده في الدنيا جزءا واحدا يتراحمون به فيما بينهم، فما نراه من تراحم الخلق، وتوادهم، وتعاطفهم فيما بينهم، وصفحهم عن الزلات، كل ذلك من الجزء الواحد، وهذا يدل على عظيم رحمة الله تعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه الحاكم.

عباد الله: الله عز وجل أرحم بنا من رحمة أمهاتنا، نعم، رحمة الله بعباده أعظم  من رحمة الأم بولدها. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي ، فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) رواه البخاري. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}(الفرقان:70:68)، ونزلت {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}(الزمر: 53)) رواه البخاري.
ومن أصول اعتقاد أهل السنة: أن من أسرف على نفسه في المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة إذا تاب قبل أن يموت، فإن الله سبحانه يقبل توبته ويغفر له، وأما من مات على الشرك ولم يتب، فإن الله لا يغفر له، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء48)..
رحمة الله واسعة لا يستطيع أحد أن يحجرها أو يمنعها، فهو سبحانه أرحم الراحمين، يغفر الذنوب للعاصين والمذنبين من عباده مهما بلغت وكثرت، وكل ذنب تحت مشيئة الله تعالى، فيغفر لمن يشاء إلا الشرك، وحين قال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعا) رواه البخاري، أي ضيقت وخصصت ما هو عام من فضل الله ورحمته التي وسعت كل شيء..
فبرحمة الله وبفضله يستر، وبرحمته يهدي، وبرحمته يتوب ويغفر، وتأملوا معي هذا الحديث القدسي لتعلموا كم هي رحمة الله عظيمة وواسعة:
قال الله تعالى: ( يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض (بملء الأرض) خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي. فمهما عظمت ذنوبك، فمغفرة الله أعظم، ومهما ضاق بك الحال، فرحمة الله أوسع، والله تعالى يفرح بتوبة عبده العاصي، لأنه يحب الإحسان والعفو والرحمة، ويحب التوابين: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}(البقرة:222)..

ومن لطف الله عز وجل ورحمته بعباده أن أمرهم بالتوبة، ويسر وفتح لهم أبوابها، حتى يرجع المذنب إلى ربه، ويتوب مهما كانت ذنوبه كثيرة وكبيرة، فقال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}(النور:31)، ووعدهم بالقبول فقال: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} (الشورى: 25)..
وباب التوبة مفتوح بفضل الله دائما، لا يغلق حتى موت الإنسان، ما دام واعيا ولم يدركه الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) رواه أحمد.
وشروط قبول التوبة كما ذكرها العلماء باختصار: الندم على ارتكاب الذنب، وعقد العزم الجازم على ألا يعود إليه أبدا، والشرط الثالث: الإقلاع والابتعاد عن الذنب وأسبابه وما يؤدي إليه، فإذا توفرت هذه الشروط فإن التوبة مقبولة إن شاء الله تعالى، ولو عاد العبد لضعفه وغلبة هواه ثم تاب توبة نصوحا مرة ثانية تاب الله عليه، وذلك ما لم يغرغر، أي ما لم يكن في حالة الاحتضار وظهور علامات الموت..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله أكرمنا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم.. أما بعد، عباد الله:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض مغازيه، فبينما هم يسيرون إذ أخذوا فرخ طائر، فأقبل أحد أبويه حتى سقط في أيدي الذين أخذوا الفرخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون إلى هذا الطائر؟ أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم؟! فوالله لله أرحم بخلقه من هذا الطير بفرخه) رواه البيهقي..
فيا من عصيت وقصرت ـ وكلنا ذلك الرجل ـ باب التوبة يظل مفتوحا للعبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، فحينذاك: {لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا}(الأنعام:158). ولا يمنع توبتك ولا يحول بينك وبينها أنك كلما تبت رجعت إلى المعصية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يحكيه عن ربه عز وجل: (قال أذنب عبدي ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبا، فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا. فعلم أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك) رواه البخاري.

ليس هناك أرحم وأكرم من الله سبحانه وتعالى، ولكن ينبغي أن ننتبه أيها الإخوة الكرام، أن سعة رحمة الله بعباده وعفوه لا ينبغي أن تتخذ وسيلة للتشجيع على المعصية والتساهل في الطاعة، لأن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين التوبة، فلنحذر أن نجعل رحمة الله وسيلة للغفلة وعدم الإسراع بالتوبة، فقد قرن الله في كثير من الآيات القرآنية مغفرته للذنوب بشدة عقابه للعصاة، قال تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}(الرعد:6)، وقال: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب}(غافر:3)..
فأين نحن من المسارعة إلى التوبة والرجوع إلى الله؟! فلا يكفي أن نتمنى رحمة الله دون سعي إليها، ولا أن نرجو المغفرة دون عمل يليق بها، رحمة الله قريبة، لكنها قريبة من المحسنين، ممن أقبلوا على الله بقلوبهم وأعمالهم، ممن تابوا وأنابوا، وأصلحوا وأحسنوا، أما من أعرض واستكبر، وأصر على الذنب، وأمن مكر الله، وظن أن الرحمة ستأتيه وهو مصر على العصيان، فقد غفل عن سنة الله في خلقه..
فلا تتأخر في التوبة، ولا تؤخر الإنابة، فإن الموت قد يأتي بغتة والقبر صندوق العمل.

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56)، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة