- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:خطب الجمعة
الخطبة الأولى
الحمد لله الملك الديان، المتفرد بالبقاء والسلطان، كتب على خلقه الفناء، وتفرد وحده بالدوام، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(الحشر:18).. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد أيها المسلمون:
نحن نعيش في عصر طغت فيه الماديات، وكثرت فيه الشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن منهج رب الأرض والسماوات، فغلفت القلوب بالغفلة، وتراكم عليها الران، وقل فيها الخوف من علام الغيوب..
وما أحوجنا في أيامنا هذه أن نذكر القلوب بكلمات تمزج بين الخوف من الله والرجاء في رحمته، فبهما تطمئن النفوس، ويثبت المسلم على طريق الاستقامة، ويرتقي في منازل العبودية، ويسعد في دنياه وأخراه..
فالخوف والرجاء جناحان لا يستغني عنهما السائر إلى الله، ولا ينجو من فتن الدنيا وعذاب الآخرة إلا من امتلأ بهما قلبه، وهما الزاد الذي يوصل إلى روضات الجنان، ورضوان الرحمن، كيف لا؟! وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه وعباده الصالحين بأنهم: {كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}(الأنبياء:90)..
أما عن الخوف من الله: فإن الإسلام قد أمر به وأثنى على أهله، لما له من آثار طيبة وثمرات عظيمة، قال الله تعالى: {فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}(التوبة:13)، وقال تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين}(آل عمران:175)، وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر:28)..
وبين نبينا صلى الله عليه وسلم عظم أثر الخوف من الله في المسارعة إلى الطاعات والخيرات، والسير إلى الله بخطى ثابتة، حتى الوصول إلى الجنة، فقال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) رواه الترمذي.
ومن خاف الله في الدنيا، أمن في الآخرة، ومن خشيه بالغيب، أمنه الله يوم الفزع الأكبر، قال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}(الرحمن:46).. وقال في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي، لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين؛ إن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا، أمنته يوم القيامة) رواه ابن حبان.
من منا -عباد الله- يقوى على نار الدنيا؟! من منا يتحمل لهب عود ثقاب؟! فكيف بنار وقودها الناس والحجارة؟!
الخوف من عذاب الله في الآخرة زاد الصادقين، ورادع المتقين، وإنها ـ والله ـ نار لا طاقة لنا بها، ولا قدرة لنا على احتمالها، وهل لنا طاقة بنار جهنم؟!
إن نار الدنيا التي لا يصبر أحدنا على لمسها لحظة واحدة، وما هي إلا جزء يسير من نار الآخرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم قال: (ناركم هذه التي توقدون جزء واحد من سبعين جزءا من حر جهنم) رواه مسلم.
تأملوا وصف النبي صلى الله عليه وسلم لأهون أهل النار عذابا بقوله: (إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة، يغلي منها دماغه) رواه البخاري، فإذا كان هذا أهون أهل النار عذابا، فكيف بمن هو أشد؟! كيف بمن يسحب على وجهه؟! كيف بمن يصب الحميم على رأسه؟!
النار ليست خرافة، ولا وهما، ولا أسطورة تروى في القصص! إنها وعيد من رب العالمين، جزاء لمن تكبر عن طاعته، وأعرض عن ذكره، وأصر على معصيته، وتجبر على خلقه، قال الله تعالى محذرا منها: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}(التحريم:6)، وللنار دركات، وأهلها يتفاوتون في العذاب بحسب كفرهم وذنوبهم، قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}(النساء:145)..
وعصاة المسلمين ـ ممن غلبت سيئاتهم حسناتهم ـ إن لم تدركهم رحمة الله ومغفرته وفضله، فإنهم يعذبون فيها على قدر معاصيهم، ثم يخرجون منها برحمة الله ويدخلون الجنة، قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:48).
فليكن لنا من وصف النار عبرة، ومن هولها زاجر، ولنتق الله ما استطعنا، فإن عذابه شديد، وما بيننا وبين العذاب أو النعيم إلا موت قد يفاجئنا على غفلة..
وإذا كنا قد تحدثنا عن الخوف من الله وأهميته، فإليكم صورا حية ونماذج ناطقة من حياة الخائفين من الصحابة والتابعين، الذين هز الإيمان قلوبهم، وأيقظت الخشية أفئدتهم، فلم تغرهم الدنيا ولم تبهرهم زينتها.. ولو تأملنا أحوالهم لوجدناهم في غاية العمل مع الخوف، وقد روي عنهم أحوال تدل على مدى خوفهم وخشيتهم لله مع شدة اجتهادهم وتعبدهم..
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن"، وكان كثير البكاء، ويقول: "ابكوا فان لم تبكوا فتباكوا"..
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسقط مغشيا عليه إذا سمع الآية من عذاب الله من القرآن، فيعوده الناس أياما لا يدرون ما به، وما هو إلا الخوف من الله.. ولما دخل عليه ابن عباس رضي الله عنه وهو في فراش الموت، وأخذ يبشره بصحبة ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له، وبفضائله، قال: "والله لو أن لي ما في الأرض ذهبا لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه"..
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على القبر يبكي ويقول: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم الى أيتهما أصير"..
ولما قيل للإمام الشافعي وهو على فراش الموت: "كيف أصبحت يا إمام؟! فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللإخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولعملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري أتصير روحي إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها؟"..
وقيل للحسن البصري: "يا أبا سعيد! إننا نجالس أقواما يخوفوننا من الله جل وعلا، حتى تكاد قلوبنا أن تطير من شدة الخوف، فقال: والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك في الدنيا حتى يدركك الأمن في الآخرة، خير من أن تصحب أقواما يؤمنونك في الدنيا حتى يدركك الخوف في الآخرة"..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده..
أما بعد: أيها المسلمون:
المؤمن يخشى الله، لكنه بشر ليس ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فربما يضعف فتزل قدمه في المعصية، (كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون) رواه الترمذي.
فمهما أسرفت على نفسك في الذنوب، ثم رجعت إلى الله تائبا نادما فالله يقول لك: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}(الزمر:53)، وقال تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنا السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي، شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي.
ولما رأى الصحابة امرأة تأخذ ولدها بحب ورحمة لترضعه، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها) رواه مسلم.
الله جل وعلا برحمته، فتح أبواب الرجاء والعمل لعباده، وسهل طريق التوبة والإنابة أمام المذنبين والعاصين، فحقيقة الرجاء ما قارنه العمل، والناس ثلاثة: الأول رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه. والثاني: رجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه، والثالث: رجل متماد في التفريط والإصرار على المعاصي يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.
هذا هو الفهم الصحيح لأحاديث الرجاء، فالرجاء مع العمل، والرجاء مع الخوف لا ينفصلان أبدا.. قال الحسن البصري: "إن قوما ألهتهم أماني المغفرة، حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل"..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56)، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا محمد..

المقالات

