ومضى شهر رمضان

0 0

الخطبة الأولى

الحمد لله، حمدا كثيرا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، ونشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم في التبجيل والإكرام، وسلم تسليما كثيرا على الدوام.

أيها المسلمون: المستقرئ لتاريخ الأمم والمتأمل في سجل الحضارات يدرك أن كلا منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتبدل: {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} [النور:44].

لحظات الوداع تثير الشجون، وتبكي المقل والعيون، وتنكأ الالتياع، وهل هناك فراق أشد وقعا ووداعا، وأكثر أسا والتياعا من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك؟! 

لقد شمر الشهر عن ساق، وآذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قوضت خيامه، وتصرمت أيامه، وأزف رحيله، ولم يبق إلا قليله، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأل الله قبوله.

مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا، شاهد للمشمرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى؟! أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات؟!

ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك من وفق لإتمام العمل وإخلاصه ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.

لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألـم تسمعوا إلى قـول الله تعالى {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة:27]؟" 

ويقول مالك بن دينار: "الخوف على العمل ألا يتقبل أشد من العمل".

وقال فضالة بن عبيد: "لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة، لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها".

ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام! سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح!  كان مضمارا للمتنافسين، وميدانا للمتسابقين.

ألا وإنه راحل لا محالة فشيعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيعوه، فما من شهر رمضان في الشهور عوض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأمان كل خائف مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رفعت فيه من أكف ضارعة؟! وذرفت فيه من دموع ساخنة؟! ووجلت فيه من قلوب خاشعة؟! وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة؟!

عباد الله: متى يغفر لمن لم يغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يقبل من رد في ليلة القدر؟!

أورد الحافظ ابن رجب عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه".

أيها المقبولون: هنيئا لكم، أيها المردودون: جبر الله مصيبتكم، ماذا فات من فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟! كم بين من حظه فيه القبول والغفران؟! ومن حظه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح من لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟!

فيا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فمن أعتق فيها من النار فقد فاز والله بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة؟!

فيا من أعتقه مولاه من النار: إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حرا إلى رق الأوزار! أيبعدك مولاك من النار، وأنت تقترب منها؟! وينقذك وأنت توقع نفسك فيها؟! وهل ينفع المفرط بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبته، وجل عزاؤه؟!

فبادروا يا رعاكم الله! فلعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح! ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح!

أمة الإسلام: ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟!

لننظر في حالنا! ونقارن بين وضعنا في أول الشهر وآخره! هل عمرت قلوبنا بالتقوى؟! هل صلحت منا الأعمال، وتحسنت الأخلاق، واستقام السلوك؟! هل اجتمعت الكلمة، وتوحدت الصفوف؟! هل زالت الضغائن، والأحقاد، وسلت السخائم من النفوس؟! هل تلاشت المنكرات والمحرمات عن المجتمعات؟!

يا من استجبتم لربكم في الصيام والقيام، استجيبوا له في سائر الأعمال والأيام.

أما آن أن تخشع لذكر الله القلوب، وتجتمع على الكتاب والسنة الدروب، لتدرأ عن الأمة غوائل الكروب وقوارع الخطوب؟!

هذا هو الأمل، وعلينا الصدق والعمل.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله ترفع الدرجات، وتكفر السيئات. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاضي الحاجات، والعالم بالخفايا والمكنونات، ونشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.

فاتقوا الله عباد الله، واستودعوا شهركم عملا صالحا يشهد لكم عند ربكم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وأوفر سلام.

أيها الإخوة الصائمون: لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالا عظيمة، تسد الخلل وتجبر التقصير، وتزيد في المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة: {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} [البقرة:185].

كما شرع لكم زكاة الفطر شكرا لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، وتحريكا لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.

أيها الإخوة! واصلوا المسيرة في عمل الخير، وحثوا الخطى في العمل الصالح؛ لتفوزوا برضا المولى، فلديكم من الأعمال الصالحة ما يعد من المواسم المستمرة؛ هذه الصلوات الخمس المفروضة، وهذه نوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقة، وهكذا سائر الأعمال الصالحة.

واعلموا أنه لئن انقضى شهر رمضان المبارك؛ فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ومن علامة قبول الحسنة: الحسنة بعدها، ورب الشهور واحد، وهو على أعمالكم شاهد، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!

واعلموا أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم: كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم. اللهم صل وسلم وبارك على محمد بن عبد الله.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة