- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:خطب الجمعة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102)..
أما بعد:
في زمان كثر فيه الظلم، وامتهنت فيه الحقوق، وأوشك فيه الناس أن يألفوا رؤية الظلم بلا إنكار، بل ربما اعتذروا له، استهانة بحرمته، وغفلة عن عاقبته.. لهذا، ولغيره من صور الانحراف عن العدل، نقف اليوم مع خطورة الظلم وعاقبته..
عباد الله: الظلم جريمة عظيمة ومحرمة في ديننا، وقد حرمه الله عز وجل على نفسه، وجعله محرما بين عباده، فقال في الحديث القدسي: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا) رواه مسلم.
واعلموا رحمكم الله، أن للظلم نهاية لا مفر منها، وعاقبة وخيمة، في الدنيا قبل الآخرة، وإن طال الأمد، فالله يمهل، لكنه لا يهمل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}(هود:102) رواه البخاري.
القرآن الكريم يصور حال الظالمين يوم القيامة تصويرا يهز القلوب: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما}(طه:111).
ونبينا صلى الله عليه وسلم حذرنا من هذا الجرم الكبير تحذيرا شديدا، فقال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم، وقال: (اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) رواه الطبراني.
نعم، دعوة المظلوم لا ترد، تصعد إلى السماء من قلب مجروح منكسر، متألم مما وقع عليه من الظلم، والله تعال يقول: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه}(النمل: 62).. فالله عز وجل يجيب دعوة المظلوم وإن طال الزمان، قد يدعو المظلوم على من ظلمه، ولا يرى شيء في الحال، لكن وعد الله حق، واستجابة الله آتية لا محالة، وقد يعجل الله العقوبة للظالم، وقد يؤخرها لحكمة يعلمها، لكنها حق لا ريب فيها، فإن دعوة المظلوم سهم نافذ وإن تأخر وصوله، لكنه لا يخطئ أبدا، قال تعالى: {ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون}(إبراهيم:42).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الظلم أنواع:
أولها: ظلم العبد فيما يتعلق بحق الله جل وعلا، وذلك بالإشراك معه غيره في عبادته، وهو أعظم أنواع الظلم، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم}(لقمان:13)، حين يشرك العبد بربه، فيجعل له ندا، وصاحبة وولدا، ويدعو من لا يملك له نفعا ولا ضرا، أو يلجأ إلى غيره ويدعوه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وذلك من أعظم الجهل والظلم..
وثانيها: ظلم العبد لنفسه، ويكون بارتكاب المعاصي صغيرها وكبيرها، قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}(الطلاق:1).
وثالثها: الظلم المتعلق بالعباد، وهو كثير ومتنوع، كأخذ الحقوق، والتعدي على الأعراض، أو الأموال، أو الدماء، ومن ذلك الغيبة، والسب، والقذف، والبهتان، وكل إساءة إلى الآخرين بغير حق.. وللأسف الشديد فقد انتشر بيننا هذا الظلم، حتى أصبح سببا لكثير من الآلام النفسية والجسدية لبعض الناس، وذلك من آثار الظلم حين يمارس ولا يرفع، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه) رواه البخاري.
ومن صور الظلم للعباد: أخذ أموال الناس بالباطل، وأكل أموال اليتامى، قال الله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}(النساء:10). وهذا مع الأسف حاصل، فقد يأكل العم أو الخال مال اليتيم بلا خوف من الله، وقال صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟! فقال: وإن كان قضيبا من أراك (عودا من سواك)) رواه مسلم.
ومن صور الظلم: مطل الغني وظلم العمال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري، والمطل هو التأخير في قضاء الدين مع القدرة على سداده، فيماطل الغني في سداد ديونه، أو يؤخر رواتب موظفيه وعماله وعنده ما يدفعه لهم.
ومن صور الظلم في محيط الأسرة:
ظلم الزوجات لأزواجهن بتقصيرهن في حقهم، وتنكر فضلهم.. وظلم الأولاد للوالدين بالعقوق.. وظلم الآباء للأولاد في عدم الإحسان في تربيتهم، والتفرقة بينهم، والقسوة في التعامل معهم..
وكذلك ظلم الزوج لزوجته، بأن يقصر في حقها، أو يضربها، أو يمسكها ضرارا بعد الطلاق، كما قال تعالى: {ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا}(البقرة:231)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالمرأة خيرا وقال: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهله) رواه الترمذي.
ولذلك لما سأل رجل الحسن البصري عمن يزوج ابنته له فقال: "زوجها ممن يخاف الله، فإن أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها".. وهذا رجل من السلف أراد تطليق زوجته فسئل عن السبب؟ فقال: "لا ينبغي للرجل أن يهتك ستر زوجته، ثم طلقها، فقالوا له: فأخبرنا عن سبب الطلاق، فقال لهم: لا يجوز للرجل أن يذكر عيوب امرأة غريبة عنه، وربما تكون زوجة لأخيه غدا"..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده وروله.. أما بعد:
عباد الله: الظلم جرم كبير، وذنب عظيم، يأكل الحسنات، ويجلب الويلات على الأفراد والمجتمعات، قال الله تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا}(الكهف:59). وقال ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة"..
لما رجع مهاجروا الحبشة من الصحابة قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قالوا بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها، فلما قامت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غدر (يا ظالم) إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا.. قال صلى الله عليه وسلم: صدقت، صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!) رواه ابن ماجه.
الظلم يعرضك للإفلاس من الحسنات والقصاص في يوم الحسرات، أما عن الإفلاس من الحسنات فقد قال عليه الصلاة والسلام : (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم، وأما القصاص في يوم الحسرات فلقوله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء، من الشاة القرناء) رواه مسلم.
وختاما -أيها المسلمون- بادروا برد المظالم والتحلل منها، فلن يجاوز جسر جهنم إلى الجنة ظالم حتى يؤدي مظلمته، ويا عبد الله: خفف عن ظهرك، فظهرك لا يطيق، ظلم هذا، وأكل مال هذا، والوقوع في عرض هذا، وشتم هذا، وقد خاب من حمل ظلما..
لما حضرت عبادة بن الصامت رضي الله عنه الوفاة قال لأهله: "أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، قال: اجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي، فجمعوهم له، فقال: إني لأرى يومي هذا آخر يوم يأتي علي من الدنيا، وليلتي هذه أول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعله فرط مني إليكم شيء بيدي أو بلساني ـ هو والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة ـ، وإني أحرج على أحد منكم في نفسه علي شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج روحي، فبكوا جميعا وضجوا وقالوا: بل كنت والدا، وكنت مربيا، وكنت مؤدبا ومحسنا، قال: تجودون لي بالدمع، وما يغني الدمع. أغفرتم لي؟ فضجوا وقالوا: أن نعم، قال: اللهم اشهد.. اللهم اشهد.. اللهم اشهد.. أشهد أن لا إله إلا الله، ثم لقي الله عز وجل"..
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}(الأحزاب:56)، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد..

المقالات

