- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:ثقافة و فكر
جاء الإسلام بثورة فكرية، وحضارية، تحارب ظلمات الجهل والأمية، وتنشر العلم والمعارف، وتحتفي بالتعليم، والمعلم.
هذه الأمية التي هي ليست مجرد عجز عن القراءة والكتابة، بل هي حرمان من نور الفهم، وحرمان من الوعي الذي به تبنى الأمم، وتنهض الحضارات.
جاء الإسلام إلى العرب، وهم أمة يندر فيهم من يعرف القلم، أو يمسك بالورق، فجعل من الكلمة أول معجزة، ومن القراءة أول فريضة، فكان أول ما نزل من الوحي الإلهي أمرا واضحا صريحا:{اقرأ} بهذه الكلمة بدأت نهضة إنسانية عظيمة غيرت وجه التاريخ.
كان العرب قبل الإسلام على فطرتهم الأولى؛ أكثرهم لا يكتب ولا يقرأ، وإنما يعيشون في دائرة السماع، والحفظ والرواية، ولم يكن في جزيرة العرب كلها – كما تذكر الروايات – أكثر من سبعة عشر رجلا يعرفون الكتابة، ومع ذلك، لم يحتقر الإسلام تلك البداية المتواضعة، بل جعل منها أساسا لثورة معرفية امتدت من مكة إلى الأندلس، ومن المدينة إلى سمرقند، كان النبي ﷺ يرى في العلم خلاص الأمة، فحين أسر بعض رجال قريش يوم بدر، لم يجعل فداءهم مالا، بل جعل فداء كل أسير له أثارة من علم: أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة؛ بذلك الفعل المؤسس، وضع أول حجر في بناء ثقافي شامل امتد قرونا من العطاء.
ولم تلبث الكتابة أن فشت في العرب، وشاعت القراءة في كل مصر فتحه المسلمون. ولم يمض قرن واحد على بزوغ فجر الإسلام حتى صار في البلاد الإسلامية من القراء والكتاب عدد يفوق الأميين، بل إن أهل الأندلس – كما يروى – كان فيهم من النساء، والرجال، ممن يعرف القراءة والكتابة ما لا يوجد نظيره في بلاد أوروبا آنذاك.
كان التعليم إذن في الإسلام رسالة عامة لا يختص بها طبقة، ولا جنس، ولا عمر، بل هو حق للجميع، وواجب على المجتمع أن يكفله لكل أفراده.
لقد أدرك أجدادنا أن الأمية ليست مجرد جهل بالحروف، بل عجز عن فهم الدين والحياة معا، لذلك كانت المساجد والجوامع مدارس مفتوحة للعلم، وكانت الكتاتيب تقام على أبوابها لتعليم اليتامى، وأبناء الفقراء، وكان من النادر أن يبنى مسجد دون أن يشاد بجانبه كتاب يعلم الصبيان القراءة والقرآن؛ حتى معسكرات الجند والرباط في الثغور، كانت أشبه بمدارس تعقد فيها الدروس، ويتلى فيها الحديث، والفقه، واللغة.
ولأن الإسلام جعل العلم عبادة، فقد أصبح تعلم القراءة من ضرورات الدين، إذ لا تصح عبادة المسلم، ولا تلاوته لكتاب الله على وجه صحيح، إلا بمعرفة الحروف وأداء الكلام، وبهذا المفهوم لم يكن التعليم في الحضارة الإسلامية ترفا فكريا، ولا مطلبا نخبويا، بل ضرورة اجتماعية وجودية.
فالأمي لا يستطيع أن يعيش حياة سوية في مجتمع متعلم، ولا أن يشارك في نهضته، لأن الجهل عزلة، والعلم انفتاح على العالم؛ لذلك رأى المصلحون المسلمون عبر العصور أن الأمية هي العلة الكبرى لانحطاط الأمة، والداء الذي يجب أن يستأصل بكل وسيلة، فإذا لم يتعلم أهل القرى كما يتعلم أهل المدن، فلن تقوم حضارة متوازنة، ولن تستقيم حياة الناس، فالعلم كالنور، لا ينفع بيتا واحدا، إن ظلت البيوت حوله غارقة في الظلام.
وعى المسلمون هذه الحقيقة، فجعلوا من التعليم الأولي حجر الزاوية في كل نهضة، لم تكن مدارسهم الأولى سوى كتاتيب صغيرة، لكنها أخرجت علماء في الدين، واللغة، والفلك، والطب، وامتدت أنوارها إلى الجامعات الكبرى في بغداد، وقرطبة، والقيروان، كل ذلك انطلق من إيمان راسخ بأن العلم فريضة، وأن الجهل عار، وكانوا يقولون إن الجاهل في ذمة العالم، وإن من فهم عليه أن يحمل عبء من لم يفهم، فالوعي مسؤولية جماعية، وليس معرفة تكتسب لذاتها.
إن محاربة الأمية في الفكر الإسلامي ليست شأنا ماديا يتعلق بالقراءة، والكتابة فحسب، بل هي تحرير للعقل من القيود، وتنوير للبصيرة بعد العمى، فالأمي في نظرهم لا يعد جاهلا بالأحرف وحدها، بل هو جاهل بحقيقة نفسه، عاجز عن إدراك ما يصلحه، غير قادر على التمييز بين الحق والباطل، ومن هنا كان واجب العالم أن يأخذ بيد الأمي، كما يأخذ البصير بيد الأعمى، فيدله على الطريق السوي.
ولا تزال هذه الرسالة قائمة في كل عصر، لأن الأمية اليوم لم تعد جهلا بالحروف فقط، بل جهلا بالفكر والعلم والوعي، قد يحمل الإنسان شهادة، لكنه أمي في فهم دينه، وواقعه، ومسؤوليته تجاه أمته، من هنا يجب أن نحيي في مجتمعاتنا روح الإسلام الأولى في مقاومة الأمية، لا بمحوها من الأوراق، بل من العقول والضمائر.
لقد أثبت التاريخ أن الأمم لا تنهض إلا حين تضع التعليم في موضع الصدارة، وحين يصبح القلم سلاحا يوازي السيف، وحين يفهم الناس أن الكلمة المكتوبة أعظم أثرا من أي فتوحات مادية؛ ذلك ما فعله الإسلام يوم أطلق نداءه الخالد: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، فقرأ الناس باسم الله، وتعلموا باسم الله، فخرجوا من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة، وهكذا قامت أمة القرآن، أمة علمت العالم أن مقاومة الأمية هي أول الطريق إلى الحرية، وأن بناء الإنسان هو هدف أسمى في مشروعها الحضاري الخالد.

المقالات

