السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جزاكم الله خيرا على ما يتم تقديمه لنا من إفادة على هذا الموقع الرائع.
ليس لدي حسن توكل على الله، ولا حسن ظن به، وهذا ما يدخل الحزن والهم على قلبي، فمثلا ابني في الثانوية العامة، ويذاكر، ولكنه لا يبذل جهدا في مذاكرته وسعيه، ومع هذا هو يشجعني على التوكل واليقين بالله؛ بأن الله سيرزقه أعلى الدرجات.
المشكلة هنا عدم ثقتي في ابني، وهذا ما يجعلني لا أعرف كيف أتوكل على الله، ولا يكون لدي يقين، وأعوذ بالله مما أفكر فيه، مع أننا يجب أن نتجه إلى الله، ونطلب منه المستحيل، لكن المشكلة أنني كلما نظرت إلى ابني قلت: كيف له أن يوفقه الله ويرزقه وهو لم يبذل جهدا لذلك؟
أرجوكم ساعدوني: كيفي أتوكل على الله، وأيضا كيف أقوي اليقين به حتى لو كانت الأسباب توحي بعدم تحقق ما أريد؟
جزاكم الله خير الجزاء.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رحاب حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -أختنا الفاضلة- في موقع استشارات إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك إلى القول الحسن والعمل الصالح، وأن يبارك في سعيك، ويجزيك خير الجزاء على حرصك على فهم دينك، وتحسين علاقتك بالله تعالى.
نبشرك بداية بأن الطريق إلى الله عز وجل طريق يسير وواضح، ولا تعقيد فيه، ولا غموض، وإنما يحتاج إلى قليل من العلم الصحيح، وصلاح في النية، مع حسن الظن بالله تعالى؛ فدين الله يقوم على الرحمة واليسر، لا على المشقة والعسر، كما قال الله سبحانه: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾، فلست بحاجة إلى جلد الذات، واتهام نفسك بقسوة؛ حتى لا تغلقي باب التعلم، وحسن الظن بالله.
وللإجابة على تساؤلك الكريم، سنقسم الحديث إلى ثلاثة محاور رئيسة، لتكون أسهل في الفهم، وأوضح في التأمل.
أولا: فهم التوكل واليقين فهما صحيحا: إن التوكل على الله تعالى لا يعني انتظار الكمال في الأسباب، ولا يشترط المثالية في الأداء، كما لا يعني الاعتماد على الأسباب، وكأنها الفاعل الحقيقي، فذلك يعد تواكلا مذموما.
أما التوكل الحق، فهو أن يبذل الإنسان ما يستطيع من جهد، في حدود طاقته ووسعه، ضمن الأسباب المشروعة والمتاحة، ثم يسلم أمره كله إلى الله، مع يقين راسخ بأن الله هو المسبب والمدبر، وأن الأسباب لا تنفع ولا تضر إلا بإذنه وتقديره، فهي من تقديره وتدبيره سبحانه.
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى بقوله: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا"، فالطير تخرج جائعة في الصباح تبحث عن رزقها، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، وتعود ممتلئة في المساء، لم تكن تعرف أين الرزق، ولكنها سعت، فهدى الله خطاها، وساق لها رزقها، وهذا هو التوكل على الله.
فالفرق بين التوكل والتواكل هو: إن التوكل يجمع بين فعل السبب وتعلق القلب بالله لا بالسبب، أما التواكل فهو اعتماد على الأماني دون بذل الأسباب أو السعي.
أما يقين القلب: فلا يعني مجرد أن ترى النتائج بعينك، بل أن توقن في قلبك بأن الله لا يخيب من صدق معه، وتوكل عليه حق التوكل، وأخذ بالأسباب، وإن قلت، أو بدت ضعيفة، فإن الله هو القادر الذي يجري الخير حيث شاء، وكيف شاء.
ثانيا: التفريق بين قلة الثقة في الابن، وقلة الثقة في الله.
أختنا الكريمة: إن مشاعرك تجاه ابنك نابعة من قلب أم تخاف وتحرص على مصلحة ولدها، ولا حرج في هذا الخوف الطبيعي، ولكن الخطأ يكمن في الخلط بين ضعف أداء الابن أو تقصيره، وبين قدرة الله عز وجل.
فالله سبحانه لا يرزق العبد، أو يوفقه لأنه أكفأ الناس، أو أكثرهم اجتهادا فحسب، بل لأنه رحيم، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، وقد يرزق ابنك من التوفيق والنجاح ما لا يتناسب ظاهرا مع جهده، ولكنه نتيجة دعوة صادقة من قلب أم، أو رحمة من الله به، أو بركة من صلاح الوالدين، كما قال الله تعالى: ﴿وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا﴾.
ويظهر هذا المعنى جليا في قصة الغلامين اليتيمين في سورة الكهف، حين قال الله تعالى: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك"، فصلاح الأب كان سببا لحفظ الأبناء رغم عدم بذلهم سبب ذلك.
فانظري كم من إنسان اجتهد وسعى ولم يوفق، وكم من آخر ظننا أنه لا يملك المقومات، ومع ذلك نجح وبرز، السر لا يكمن في الجهد وحده، بل في التوفيق، والتوفيق هبة من الله لا تقاس بالعقل، أو المقاييس البشرية، بل تنال بحسن الظن، وصدق التوكل، وصفاء القلب، وصدق اللجوء إلى الله، والتزكية للنفس بالإكثار من الصالحات والخيرات.
ثالثا: كيف تتعلمين التوكل واليقين رغم ضعف الأسباب: تعلم التوكل الحقيقي يكون من خلال بناء الإيمان، وتقوية الصلة بالله عز وجل؛ فالإيمان يزيد بالطاعة، ويضعف بالمعصية، وكلما زاد ارتباط العبد بالله، وأكثر من الذكر والدعاء، وصدق في التضرع والخشوع، ازداد يقينه بالله، وحسن توكله عليه، كما قال تعالى: ﴿.. وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾.
فأكثري من الدعاء والتضرع، واطلبي من الله أن يرزقك حسن التوكل عليه، وتمام الثقة به، وأن ييسر لك أمرك، وأن يوفق ابنك، ويرزقه من الخير ما لا يخطر لك على بال.
ومن الأدعية المأثورة التي تعين على ذلك: التكرار مرارا صباحا ومساء -سبع مرات- في أذكار الصباح والمساء: "حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم"، وأيضا: "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، فأصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين".
أختنا الفاضلة: ثقي بالله ثقة تامة، ولو بدت الأسباب ضعيفة، فالله لا يسأل عن قدرته، ونحن من يسأل عن ظننا به، قال الله تعالى: ﴿فما ظنكم برب العالمين﴾، وقال في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء".
فخذي بالأسباب كأنها كل شيء، وتوكلي على الله كأن الأسباب لا شيء، فإنها مجرد وسائط، والله هو الذي ينجحها أو يبطلها، وكوني على يقين في قلبك بأن من صدق في ظنه بالله، نال الخير، ولو تأخر، أو جاءه بغير الطريق الذي توقعه.
وأخيرا: ليكن في قلبك يقين المتوكلين: "يا رب، إن رزقتنا فرحنا، وإن منعتنا رضينا، لأنك لا تقدر لنا إلا الخير، في الحال أو في المآل".
نسأل الله تعالى أن يرزقك السداد والتوفيق، والرضا بقضائه.