السؤال
أبي وأمي، للأسف، عصبيان جدا، ولم يكن بينهما وفاق منذ بداية زواجهما، لطالما كانت هناك محطات للانفصال، لكن أهلهم كانوا دائما يرغمونهما على التراجع عن الطلاق، تارة من أجلنا، وتارة أخرى خوفا من كلام الناس، ونتيجة لذلك، أصبحنا نعاني نفسيا، خصوصا أننا لم نلمس منهم أي حنان، لا أذكر أن أحدهم ربت على كتفي أو قبلني، أو أظهر لي أي نوع من العاطفة.
أصبحنا، أنا وإخوتي، نرغب في الزواج فقط للخروج من هذا البيت، تزوجت، بفضل الله، وسكنت في أحد المجمعات بالقاهرة لمدة تقارب تسع سنوات، ومنذ عامين، توفي أخي الوحيد قبل زفافه، فانتقلت للعيش أنا وأولادي مع والدي وأخواتي البنات مرة أخرى.
كان هذا القرار نابعا مني، لشدة وقع الحدث على والدي، لكن النسبة الأكبر كانت نتيجة ضغط من أمي وزوجي، انتقلت للعيش منذ عام، لكنه كان من أصعب الأعوام التي مرت علي وعلى أولادي، إذ ازدادت عصبية والدي أضعافا عما كانت عليه، وما زالت الخلافات بينهما قائمة، بل أخذت منحى أكثر تعقيدا، كما أن حادث وفاة أخي زاد الأمور سوءا، وظهرت مشاحنات بين أخواتي البنات.
الأسوأ في الأمر أن أولادي يعيشون وسط هذه المشاحنات اليومية، ويتعرضون لأسلوب غير مناسب لأعمارهم، فهم في سن السابعة، وهي المرحلة التي ترسخ فيها الطباع والسلوكيات.
وبسبب الانتقال إلى القرية، توقفنا عن ممارسة الرياضة، وعن كل نشاط مفيد، وأصبح الأولاد محبوسين في هذا البيت، لا يخرجون إلا إلى المدرسة، ثم يعودون إلى هذا الصراع المميت.
أرغب في الخروج من هذا البيت؛ لأنه يفسد تربية أولادي ويؤثر على أخلاقهم وسلوكهم، لكن أخواتي البنات سيتزوجن قريبا، وسيبقى أبي وأمي وحدهما دون جليس أو أنيس، فهل علي إثم إن تركتهم حفاظا على أولادي، وما تبقى من نفسيتي؟ وجودي هنا أثر سلبا على علاقتي بزوجي بسبب العصبية والحالة النفسية السيئة.
ورغم أنني لا أنوي العودة إلى المجمع، وهو ما أتمناه، فقد اخترت الانتقال إلى مركز في نفس المحافظة لأظل قريبة منهم، وأتمكن من تقديم حياة أفضل لأولادي.
وللعلم، فإن والدتي تنوي الانفصال عن أبي بعد زواج البنات، معتبرة أنها بذلك تكون قد أدت رسالتها، وترغب في أن تعيش ما تبقى من عمرها في سلام مع أخ لها.
أرجوكم، أفتوني، فإن قلبي وعقلي يتمزقان من كثرة اللوم وجلد الذات.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ هدى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ابنتنا الفاضلة- في الموقع، ونشكر لك التواصل والاهتمام، ونسأل الله أن يعينك على التوفيق بين هذه المهام، وأن يلهمك السداد والرشاد، وأن يجلب الألفة والمحبة إلى الأسرة.
ونوصي الجميع بالطاعة لله -تبارك وتعالى-، فإن إقبالنا على الله -تبارك وتعالى- وحرصنا على طاعته هو أكبر ما يجذب الوفاق والوئام إلى البيوت وإلى الحياة الزوجية، قال العظيم سبحانه: ﴿وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين﴾ [الأنبياء: 90]، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعينكم على الصبر على الوالد وعلى الوالدة، فإن الإنسان إذا ابتلي بمثل هذه المواطن، لا بد أن يتذكر أن البر للوالدين من واجبات الشرع، وأن هذا البر لا يتحقق إلا بالصبر عليهم، وإذا لم يصبر الإنسان على والديه، فعلى من يكون الصبر؟
تبقى بعد ذلك المعادلة الأخرى، وهي تهيئة الجو المناسب لهؤلاء الأطفال الصغار، ونتمنى ألا تتداخل الأمور في بعضها، فأحيانا نحن نخطئ عندما يحصل توتر بين الكبار فندخل الصغار، أو نجعلهم يتأثرون، ولكن الصواب أن يعيشوا طفولتهم.
إذا كان الوالد والوالدة كثرت بينهم مشاكل، ولم يشبعوكم عاطفيا؛ فأرجو أن يشبع الأبناء عاطفيا، الإنسان عندما يحرم من شيء، أحيانا بعض الناس يحرم الآخرين، لكن الصواب أن نعطي الآخرين -وخاصة للأطفال- حتى ولو حرمنا من العاطفة، ولو حرمنا من الاهتمام.
فكل هذا الضيق على الصغار ستمحوه لمسة، ستمحوه قبلة، سيمحوه احتضان لهؤلاء الأطفال الصغار، أو تخصيص وقت ولو كان قليلا معهم، وهذا من الأمور التي ينبغي أن تستمروا عليها في كل الأحوال، سواء كنت في هذه البيئة أو خرجت من هذه البيئة.
وإذا كان هناك مجال لأن تكوني إلى جوار الوالدين، بحيث يكون لك منزل قريب منهم، تستطيعين أن ترعي أطفالك، وفي نفس الوقت تكونين إلى جوارهم، تحتاجينهم في هذا العمر، فإن هذا هو الأوفق والأقرب، وبلا شك زوجك له رأي، والتنسيق معه في هذه الأمور من الأهمية بمكان.
ونتمنى أيضا ألا تعلني أنك تريدين أن تخرجي لترتاحي أو نحو ذلك؛ لأن هذا يؤثر على الوالدين، رغم التقصير الذي حصل منهم، فإن تقصير الوالدين لا يقابل بالتقصير، والشرع دعوة إلى أن يوفق الإنسان بين هذه الواجبات: واجبات الزوج، واجبات الأبناء، واجبات الوالدين، كل هؤلاء لهم حقوق.
وإذا احتاج لك الوالد والوالدة -يعني في آخر العمر، أو بعد أن تخرج الشقيقات الأخوات من البيت- فأرجو ألا تقصري، ومن المهم جدا أيضا أن تتحمل بقية البنات بعض المسؤولية؛ لأن الجميع ينبغي أن يتنافس على بر الوالدين، وإذا تقاسمت البنات هذه المهمة وهذه المسؤولية؛ فإن هذا يخفف على الجميع، ونسأل الله أن يرحم هذا الأخ الذي فقدته الأسرة، وأن يرحم أمواتنا وأموات المسلمين.
ونتمنى أيضا أن يكون لكم دور في الإصلاح، تطيبون خاطر الوالد إذا كنتم معه، وتطيبون خاطر الوالدة؛ لأن الشريعة تدعوكم إلى بر الوالد وبر الوالدة، ودور الأبناء كبير جدا في تلطيف الأجواء، في ذكر المحاسن لكل من الأب والأم، حتى لو كانت قليلة، ويكفي أنهم آباء لنا وأمهات، وحقهم واجب، والبر لهم عبادة لله -تبارك وتعالى- لا تقوم على معاملتهم لنا، فإن أساؤوا فلا نسيء، لأننا نتعامل مع رب العالمين الذي شرع بر الوالدين وربطه بعبادته وطاعته.
نسأل الله أن يعينك على التوفيق بين هذه المهام، وأن يقدر لكم الخير، ثم يرضيكم به، وأن يلهم الجميع السداد والرشاد، هو ولي ذلك والقادر عليه.