والدي يعترض على بيع المنزل الذي بنته أمي من مالها الخاص!

0 0

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكركم على هذه الصفحة المباركة، وهذه الجهود في الإجابة على تساؤلات الجميع، وأسأل الله أن ينفع بها الأمة ويصلح بها حال مجتمعنا.

أنا فتاة في العشرينيات من عمري، أمر بفترة من الإرهاق الذهني لا يحتمل، سأبدأ من البداية: والدتي امرأة عاملة، ووالدي خسر عمله بسبب شجار مع المدير، وكان عمري حينها حوالي ست سنوات، لدي شقيق من والدي من زواج سابق، وهو أكبر مني.

المزعج في الأمر أن والدي طوال هذه السنوات لم يكلف نفسه عناء البحث عن عمل، أو القيام بدوره كرب أسرة، رغم محاولات والدتي المستمرة لدفعه إلى العمل، كانت هي من تتحمل كل المسؤوليات: تطبخ، تغسل، ترتب، وتصرف على احتياجات البيت.

بدأنا لاحقا في بناء منزلنا الخاص، الذي كلف والدتي الكثير من المال والتعب النفسي، واضطرت إلى التقشف في المصاريف من أجل إتمامه، وبعد الانتهاء من بنائه، انتقلنا للعيش فيه.

بعد نجاحي في الثانوية العامة، قررت والدتي الانتقال إلى مدينة أخرى لتكون قريبة من الجامعة، فاستأجرنا شقة صغيرة مقارنة بمنزلنا، وبعد فترة، قررت والدتي بيع المنزل الذي بنته بأموالها لشراء منزل آخر في المدينة الجديدة.

المشكلة أن والدي رفض الأمر، ووضع العديد من الأعذار والعقبات في كل مرة تناقشا فيها حول الموضوع، ومؤخرا، جاء أخي -ابن والدي من زواجه الأول- وسكن في المنزل، بحجة أنه يتشاجر كثيرا مع عمتي، التي كان والدي يسكن عندها منذ زواجه بوالدتي، وأرى أن هذه مجرد حجة جديدة لتعطيل بيع المنزل.

أنا الآن خائفة على والدتي، فقد أصيبت بمرض تزداد أعراضه سوءا عند القلق، وهي الآن في وضعية تستدعي القلق والاهتمام، لا أحد يرضى بهذا الظلم، خاصة وأنها من وضعت كل جهدها ومدخراتها في بناء هذا المنزل، بينما والدي لم يكن يعمل طوال تلك الفترة.

سؤالي هو: هل يحق لوالدتي بيع المنزل المبني بأموالها، رغم عدم وجود وثائق تثبت ملكيتها له؟ هو حصيلة تعبها لسنوات، وأنا لا أتحيز لها، لكن يؤلمني حقا أن أراها تتعرض لهذا الظلم، ما رأيكم في هذا الوضع؟ وماذا يمكنني أن أفعل؟

بارك الله فيكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ ضحى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك -ابنتنا الكريمة- في إسلام ويب، وردا على استشارتك أقول، وبالله تعالى أستعين:

نشكر لك حرصك على طرح هذه الاستشارة، وشفافيتك في عرض ما تعيشينه من تعب ذهني ونفسي؛ وهذا يدل على وعيك وحرصك على إصلاح ما يمكن إصلاحه، وأقدر تماما ما تعانينه من رؤية أمك تبذل سنوات عمرها، وتقابل بظلم وعدم تقدير، ونسأل الله تعالى أن يفرج همك، وييسر أمرك، ويجبر خاطرك وخاطر والدتك، وأن يريكما من لطفه ما تطمئن به نفوسكما.

وسوف أرد على هذه الاستشارة من الجانب الشرعي والأسري والنفسي، أرجو من الله أن ينفعكما به، وأن يرشدكما إلى أهدى طريق.

أولا: الجانب الشرعي: حكم ملكية البيت وحق أمك في التصرف فيه:
إذا كانت وثيقة الأرض باسم والدتك، فالبيت بيتها، طالما وهي التي بنت البيت وأنفقت كل مدخراتها لبنائه، والمسألة تكون محسومة، ولا يحق لوالدك أن يعترض على بيعه كونها تريد أن تشتري بيتا آخر في المدينة التي انتقلتم إليها، فبيع البيت يكون عبر وثيقة الأرض، وفي حال اعتراض والدك أو ادعائه بأنه هو الذي بنى البيت، فالواقع سيكذبه؛ كون الناس يعلمون أنه عاطل عن العمل منذ سنين طويلة.

أما إذا كانت والدتك لا تملك وثيقة تثبت شراءها لأرضية البيت، فيمكن أن تثبت ملكيتها بواسطة الشهود، لكني لا أتصور كيف يمكن -في بلد متمدن ومنظم- ألا تمتلك والدتك وثيقة تثبت ملكيتها للأرض، ولا أتصور كيف يتعامل الناس في حال البيع والشراء للأراضي، إلا أن يكون الناس يعيشون في بيئة بدوية غير متحضرة، غير أن الأعراف ستكون هي الحاكمة في هذا الحال.

العبرة في الملك لمن دفع الثمن، لا لمن سجلت الوثيقة باسمه، وهذا مذهب كثير من الفقهاء، ويؤيده القضاء الشرعي في قضايا مشابهة، فإن كان البيت مبنيا كله - كما ذكرت في استشارتك - من مال والدتك، ولم يكن لوالدك أي مساهمة لا في قيمة الأرض ولا في البناء، فالبيت بيت أمك، وإن كان والدك قد شارك، فله نصيبه وفق ما أنفق، وإن كانت الأم هي التي دفعت المال، والزوج لم يساهم بشيء، فله حق السكنى بصفته زوجا وأبا، لكن لا يحق له منعها من بيع ما ملكته هي.

هل يجوز للأب منعها من بيع ما تملك؟
لا يجوز شرعا للرجل أن يمنع زوجته من التصرف في مالها، قال تعالى: ﴿للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن﴾. وقال النبي ﷺ: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"، فإن ثبت أن البيت ملكا خالصا لها، فليس لوالدك حق شرعي في تعطيل بيعه.

المشكلة التي ستواجه والدتك أنك تقولين: "لا توجد وثائق تثبت ملكيتها"، وهنا يصبح الأمر قانونيا وإجرائيا أكثر من كونه شرعيا، ومع ذلك يمكن فعل الآتي:

• إن كان للأم شهود يعرفون أنها التي دفعت المال، فهذا يعد إثباتا قويا.

• إن كانت هناك إيصالات لمبالغ للعمال أو المقاول، أو رخصة بناء؛ فهذا يفيد جدا.

• إن كان البيت مسجلا باسم الأب فقط، فتصبح المسألة أصعب قانونيا، لكنها لا تغير من الحكم الشرعي بأن المال مالها، وهذا يتطلب محاميا ماهرا توكله والدتك للمرافعة نيابة عنها لدى المحكمة المختصة.

ثانيا: الجانب الأسري والنفسي:
لا شك أن والدتك منهكة من تحمل مسئولية البيت طيلة هذه الفترة؛ فبالإضافة إلى وظيفتها، قيامها بالإنفاق على البيت، وقيامها بأعمال البيت، وتربية الأبناء، والبناء، وغير ذلك، فإذا أضفنا لذلك اتكالية والدك وتركه الخروج لكسب الرزق، وتدخلات ابنه؛ فإن ذلك كله سيستهلك نفسية والدتك وينهك جسدها مهما كانت قوية، ومهما كان شعورك بالحزن الذي في قلبك، فلا تجعليه يتحول إلى نزاع مباشر مع والدك، فهذا لن يجدي إلا زيادة التوتر.

ثالثا: لماذا والدك يرفض البيع؟
هنالك أسباب جعلت والدك يرفض بيع البيت، ويمكن أن نجملها بما يأتي:
- الخوف من فقدان السيطرة.
- العناد؛ لأنه لم يكن صاحب القرار يوما.
- تأثير الابن من الزوجة الأولى ومحاولته أن يكون له شيء في ذلك البيت.
- الخوف من الانتقال إلى بيئة جديدة يشعر فيها بالغربة.
- رغبة (غير واعية) في تعطيل ما تريده الأم؛ لأنها هي من تمسك بزمام الحياة.
- ضعف شخصيته، كونه متكلا على والدتك في كل أموره، فهو يرى أن في اعتراضه على البيع ما يعوض نقصه، وليس من الضروري أن يكون والدك سيئا.

رابعا: ما الذي يمكنك فعله الآن؟
لا تصطدمي معه أنت شخصيا؛ لأن ذلك سيتسبب في زيادة عناده، وتوجيه غضبه إليك، وزيادة الضغط على والدتك، والذي نراه أن يكون دورك الدعم والحكمة، لا المواجهة، وأن تبقي علاقتك مع والدتك ومع والدك قائمة؛ فذلك سيجعلك مقبولة عند الجميع، وهذا القبول سيجعلك تطرحين حلولا وسطا يقبلها الجميع.

خامسا: خطوات عملية لحل المشكلة:

أ- جلسة عائلية هادئة مع طرف ثالث محايد يكون كلامه مقبولا لدى الجميع، سواء كان عمك، أو خالك، أو داعية، أو عالما شرعيا، أو صديقا حميما لوالدك، فيذكرون لوالدك أن بقاء البيت مع ابنه ليس هو الحل، بل هذا اعتداء صارخ على حق الغير؛ ولا يجوز للولد أن يبقى في البيت غصبا، ولا للوالد أن يقره على ذلك، فالأم هي التي بنت وتحملت المسئولية، وهي لا تريد ببيع البيت أن تعبث بالمال، بل تريد أن تشتري به بيتا آخر في المدينة الجديدة.

ب- الاستفادة من حق والدتك القانوني: لو افترضنا أن والدتك لا تملك أي وثيقة، فيمكنها من الناحية القانونية أن تعمل ما يأتي:
• تقوم بجمع شهود يعرفون الحقيقة، فيشهدون أن البيت ملك خالص لها.
• أن تجمع ما يثبت قدرتها المالية وعجز زوجها، وأنه لا يعمل ولا يملك شيئا، بل هو عبء عليها، فهذا يفيدها في حال النزاع.

ج- عرض حل وسط:
بإمكانك أن تعرضي حلا وسطا لوالدتك ووالدك، وهو أن يعطى مبلغا من المال مقابل عدم اعتراضه على بيع البيت؛ وذلك حتى لا يشعر بأنه فقد كل شيء، أو أنه لا قيمة له.

د- علاج نفسيتك:
ذكرت أنك تعيشين إرهاقا ذهنيا لا يحتمل، وهذا أمر طبيعي كونك ترين ما يحدث، ولا تستطيعين عمل شيء، ولكن تذكري: اعملي ما تستطيعينه، وما لا تقدرين عليه فوكليه لله تعالى.

سادسا: نصح وتوجيه لوالدتك:

ظلم الزوج لزوجته وإنكار تعبها ليس بحسن، وليس ذلك من المعاشرة بالمعروف، غير أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

كان المتوجب أن النفقة على البيت تكون على والدك، وليس على والدتك، ومع هذا فقد خرجت والدتك للعمل، فهي مأجورة على كل تعبها، وقد قال النبي ﷺ: "أفضل ما يأكل المرء من كسب يده"، فوالدتك تعد أنموذجا للمرأة المكافحة الصابرة القوية.

على والدتك أن تدرك أن وجودك معها وبجوارها، وبهذا الوعي والرحمة، نعمة كبرى من الله تعالى لها، فأنت من يواسيها، ويربت على كتفها، وينسيها همومها.

نوصيك ووالدتك بكثرة التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى، وخاصة أثناء السجود، وسلا الله تعالى أن يلين قلب والدك، وأن يظهر الحق.

أكثرا من دعاء الكرب، وهو: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم".

أكثرا من دعوة ذي النون، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين؛ فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجاب الله له".

وأكثرا من العمل الصالح؛ فذلك من أسباب جلب الحياة الطيبة، كما قال تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثىٰ وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ۖ ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾.

نسأل الله تعالى لكما التوفيق والسداد، ونسعد بتواصلك.

مواد ذات صلة

الاستشارات