كيف نتصرف مع أبي، الذي يُقتر على الأسرة ويوسع على نفسه والآخرين؟

0 0

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أبي رجل شديد البخل علينا، مقصر جدا في توفير اللباس والطعام، وأمي وإخوتي (17 و 15 سنة) يعيشون معه، لا يسأل عما ينقصهم، وإذا طلبوا منه طبخة لا يحضرها إلا بعد أيام، ولا يشتري لهم الملابس، فيتدبرون أمرهم من الأقارب.

هو سليط اللسان على أمي؛ يسب ويشتم، ولا يسمح لأخي بالعمل خوفا من أن يصبح لديه بعض المال، ولا يسمح لأمي بالخروج من المنزل أو استقبال الجيران، ويشك فيها، ويطعن في عرضها، مع أن أمي من أكثر الناس التزاما.

ليس هناك من يردعه، وأمي أيضا خائفة، لا تخطو أي خطوة نحو تغيير حالها، وما يزيد حزننا أنه كريم جدا على نفسه؛ فيأكل الطعام الجاهز خارج المنزل، ولا يطعم أهلي، ولا يقصر في لباسه، حيث يشتري لنفسه أكثر من قطعة في المرة الواحدة، ويترك أمي وإخوتي في أردأ الثياب.

شديد الكرم مع الناس؛ يقيم الولائم، ويصرف عليهم، ويعطي المال لمن يريد الاستدانة ثم يسامحه، بينما يسبب لأمي ضغطا نفسيا كبيرا، ولو استطاع أن يحاسبها على الهواء لفعل، وعندما يتشاجران يقوم أبي بالطعن في عرضها، ويهددها بأنه سيفضحها أمام الأقارب والجيران، فتزداد حزنا وخوفا رغم براءتها، وتقول: "لا أحب أن يحكى علي"، وتسكت وتصبر على كلامه وأفعاله.

أنا متزوجة منذ 13 عاما، ولم يسأل عني أو عن أطفالي، وكأنه ارتاح وتخلص مني، ومع ذلك أتصل عليه بين حين وآخر للاطمئنان عليه. حزني شديد على أمي وإخوتي، فقد أفقدهم الحياة الطبيعية؛ لا يقدرون على فعل أي شيء سوى الجلوس في المنزل، مع العلم أن حالته المادية جيدة ولا يحتاج لأحد، وإذا ترتب عليه دفع جزء من إيجار عمله، أسرع إلى تقليل مصروف البيت أكثر، وتركهم بلا شيء.

لدي أيضا أخ أكبر مني، وهو متزوج، ولا يسأل عنه أبي أبدا، بل يغار منه، وحاول منع أمي من زيارته، وقد حاول أخي إيجاد حل مع أبي، والتحدث بوضوح عن وضعهم، لكن أبي ازداد كرها ودعاء على أخي، حتى استسلمنا ولم نجد حلا، ولا نعلم ما العمل معه.

أرجو منكم الاستشارة.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ دانية حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا.

لقد لفت انتباهنا ما ذكرته عن وضع والدك وتأثير ذلك على والدتك وإخوتك، ونقدر لك هذا الحزن العميق على أهلك، وإنه لأمر مؤلم أن يرى المرء أحبابه يعيشون في ضيق نفسي ومادي رغم يسر الحال، ويحزننا أن والدك، الذي هو قوام الأسرة، يتسبب في هذا العناء.

• أتفهم ما تمرون به من مشاعر الألم، والقهر، والعجز، والأسى على حال والدتك وإخوتك. هذه المشاعر طبيعية جدا ومؤشر على طيبة قلبك وحرصك على أسرتك.

• تذكري أختي الكريمة أن ما تفعله والدتك من صبر وتحمل، مع لجوئها إلى الله، هو ابتلاء عظيم وهي مأجورة عليه إن شاء الله، وهو من أعظم أنواع الصبر، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". فصبرها واحتسابها يحول المحنة إلى منحة.

• إن سلوك والدك من البخل الشديد على أهله، والكرم المبالغ فيه على الآخرين، وسوء الخلق والطعن في العرض، هو مخالفة صريحة لحقوق الزوجة والأولاد في الإسلام، فالإنفاق على الأهل واجب، وحسن العشرة والأمانة في القول واجب أيضا. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت".

ومع ذلك يمكن أن ننظر إلى هذه المشكلة من عدة زوايا رئيسية:

• ما يفعله والدك يندرج تحت ما يعرف بـ البخل المحرم الذي يضيع الحقوق الواجبة. إن كرمه على الناس يشير إلى أنه يمتلك المال، ولكن هذا الكرم الظاهري غالبا ما يكون ناتجا عن رغبة في كسب المدح الخارجي والوجاهة الاجتماعية على حساب أسرته. هو يشتري احترام الناس بماله، بينما يهمل مسؤوليته الحقيقية التي سيسأله الله عنها يوم القيامة.

• أما سلاطة اللسان والشك في العرض، فهذا سلوك ينم عن اضطراب في الشخصية أو قلة في الوازع الديني والأخلاقي، طعنه في عرض والدتك الطاهرة، وتهديده بفضحها، هو وسيلة لتخويفها.

• نحن لا نريد أن نسقط في فخ الإسقاطات التشخيصية، ولكن هذه التصرفات قد تشير إلى أن والدك يعاني من خلل نفسي أو سلوكي عميق، يجعله يجد قيمته خارج الأسرة لا داخلها، ولهذا يقصر في واجباته.

• لفت انتباهنا قولك بأن والدتك "خائفة، لا تخطو أي خطوة نحو تغيير حالها" وقولها: "لا أحب أن يحكى علي"، هذا الخوف هو ما يبقي سيطرة والدك مستمرة، وخوفها من الطلاق، أو خوفها من كلام الناس، أو من التهديد أكبر لديها من رغبتها في التحرر من الظلم والضرر الواقع عليها وعلى أولادها.

• من الأمور التي سوف تعينها -بإذن الله- هي تغيير هذا الإدراك. يجب أن تدرك أن الإسلام يكرمها ويحميها، وأن الدفاع عن النفس والعرض وحق الإنفاق ليس ضعفا بل هو واجب وكرامة، لا ينبغي أن تخاف من كلام الناس، بقدر ما تخاف من آثار هذا الظلم الذي يضر بصحتها وصحة أبنائها.

• عليك وعلى أخيك المتزوج أن تدعما والدتك نفسيا بقوة، وأن توضحا لها أن صبرها لا يعني الرضا بالظلم. يجب أن تعملا على تكسير حاجز الخوف لديها من كلام الناس وتهديدات الأب.

• قولوا لها بوضوح: "يا أمي، الله يعلم براءتك، وحقك في الحياة الكريمة واجب؛ التهديد بالطعن في العرض هو من الكبائر التي يرتكبها الأب، وهو إثم عليه لا عليك".

• شجعوها على اللجوء إلى الله بالدعاء وقيام الليل، فإن الله عز وجل يقول: ﴿أمن يجيب ٱلۡمضۡطر إذا دعاه ويكۡشف ٱلسوٓء﴾، هذا هو المدخل لحل المشكلة: اللجوء إلى من بيده قلوب العباد.

• بما أن والدك يمنع الإنفاق الواجب ويمنع أخيك من العمل، فالواجب الشرعي ينتقل إليك وإلى أخيك الأكبر لتعويض النقص عن إخوتكما القاصرين (17 و 15 سنة) قدر استطاعتكما -على الأقل في الفترة الحالية- حتى تجدوا حلا مع أبيكم.

• النصيحة هي أن تتحملي أنت وأخوك مسؤولية مصروفات إخوتكما الضرورية (ملبس، طعام) بصفة شخصية دون انتظار إذن من الأب، وهذه نفقة وصدقة عظيمة، وهي من صلة الرحم الواجبة.

• هذه الحالة تتطلب استشارة أهل العلم (الإفتاء) والتدخل الاجتماعي، ودورنا هو الإرشاد العام، ولذلك يجب على والدتك (أو أحدكما نيابة عنها) أن تستشير جهات متخصصة في أهل الفتوى: للسؤال عن حكم الطعن في العرض، وحكم بخل الزوج على أهله، ودورنا الإشارة إلى ضرورة سؤال أهل العلم بالفتوى.

• أيضا تسأل المختصين الاجتماعيين أو الإرشاد الأسري لديكم: للتعامل مع التهديدات والشك والطعن في العرض. وكخطوة عملية مقترحة (بعد استشارة المختصين): أن يتم التواصل مع أحد العقلاء من عائلة الأب أو أحد الأئمة المعروفين ليقوم بدور الحكم لردعه.

• تجنبي أنت وأخوك الجدال المباشر والصدامي مع الأب، فقد رأيتما أنه يزيد الأمر سوءا، وتعاملا معه بالتي هي أحسن، واستخدما سياسة الاحتواء والتحييد، أي قدموا له الاحترام الظاهري الواجب لئلا يتخذ ذلك ذريعة لمزيد من التضييق، وفي الوقت نفسه قوموا بسد النقص الحاصل في الأسرة.

• أختي الكريمة: ثباتك على التواصل والسؤال عن والدتك وإخوتك دليل على أنك ابنة بارة، وجعلك الله خير سند لهم.

• عليكم بالدعاء الصادق، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. نسأل الله أن يفتح على قلب والدك، وأن يهديه إلى حسن العشرة والإنفاق، وأن ينزل السكينة والطمأنينة على قلب والدتك وإخوتك.

نسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل.

مواد ذات صلة

الاستشارات