وجه الجمع بين حديث (كل أمتي معافى..) وحديث ثوبان

0 367

السؤال

نسمع كثيرا أن أهل الكبائر قد يغفر لهم الله ذنوبهم ومعاصيهم. لكن هناك حديثان قد يوحيان أنه ليس كذلك. الأول هو أن كل المسلمين مغفور لهم إلا المجاهرون بالمعاصي. والثاني عن الذين ينتهكون حرمات الله إذا اختلوا بها.
لا يخفى أن المعاصي تكون إما بالسر أو بالجهر. على هذا لن يغفر لأحد لأنه لا يوجد أحد ارتكب معصية إلا وكانت بالسر أو كانت بالعلانية. فهل هذا إشكال أم هو وهم إشكال؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فلا يوجد إشكال بالمعنى الذي ذكره السائل وهو قوله بعدم المغفرة لأي أحد ارتكب معصية في السر أو العلانية. وبتوضيح معاني هذه الأحاديث والجمع بينها وبين النصوص الأخرى يظهر عدم وجود إشكال، فنقول مستعينين بالله:

أما من ارتكب معصية في السر ولم يجاهر بها فهو أقرب إلى مغفرة الله والتجاوز عنه بفضله، وإن كان من أصحاب الكبائر ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وكان شهد بدرا وهو أحد النقباء ليلة العقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك. رواه البخاري ومسلم.

ومن النصوص العظيمة الرجاء في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. رواه البخاري ومسلم.

وأما الحديث الآخر الذي فيه: لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا قال ثوبان يا رسول الله صفهم لنا جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم؟ قال أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها. رواه ابن ماجه.

فهذا ليس على إطلاقه، والجمع بينه وبين حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ومسلم وفيه: كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه. من وجوه:

الوجه الأول: أن حديث ثوبان ليس فيه أنهم عملوا المعصية في السر بعيدا عن أعين الناس بل قد عملوها مع أناس آخرين على شاكلتهم فهم في الحقيقة مجاهرون وألفاظ الحديث تدل على ذلك فقوله: ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.

قال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله: الذي يبدو أن (خلوا بمحارم الله) ليس معناها:سرا ، وإنما: إذا سنحت لهم الفرصة انتهكوا المحارم، فـ " خلوا " ليس معناها " سرا " ، وإنما من باب " خلا لك الجو فبيضي واصفري " . من " سلسلة الهدى والنور " شريط رقم (226) .

 وعلى ذلك فلا إشكال بين الحديثين.

الوجه الثاني: أن حديث ثوبان حتى ولو كان المقصود به أن المعصية في السر إلا أنه محمول على أقوام عندهم استهتار واستخفاف بمحارم الله أو قد يستحلون المعاصي في السر ويظهرون الصلاح في الظاهر ، فشتان بين من يعصي في السر مع خوفه من الله وعلمه بمعصيته له وبين من لا يرفع رأسا بالمعصية مع أمنه من مكر الله.

  قال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله: أي : أن عندهم استهتارا، واستخفافا بالله عز وجل ، فهناك فرق بين المعصية التي تأتي مع الانكسار ، والمعصية التي تأتي بغير انكسار، بين شخص يعصي الله في ستر، وبين شخص عنده جرأة على الله عز وجل، فصارت حسناته في العلانية أشبه بالرياء، وإن كانت أمثال الجبال، فإذا كان بين الصالحين: أحسن أيما إحسان؛ لأنه يرجو الناس ولا يرجو الله، فيأتي بحسنات كأمثال الجبال، فظاهرها حسنات، (لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) فهم في السر لا يرجون لله وقارا، ولا يخافون من الله سبحانه وتعالى، بخلاف من يفعل المعصية في السر وقلبه منكسر، ويكره هذه المعصية، ويمقتها، ويرزقه الله الندم، فالشخص الذي يفعل المعصية في السر وعنده الندم، والحرقة، ويتألم: فهذا ليس ممن ينتهك محارم الله عز وجل ؛ لأنه - في الأصل - معظم لشعائر الله، لكن غلبته شهوته ، فينكسر لها ، أما الآخر: فيتسم بالوقاحة ، والجرأة على الله ؛ لأن الشرع لا يتحدث عن شخص، أو شخصين، ولا يتحدث عن نص محدد، إنما يعطي الأوصاف كاملة.

من الناس من إذا خلا بالمعصية : خلا بها جريئا على الله ، ومنهم من يخلو بالمعصية ، وهو تحت قهر الشهوة ، وسلطان الهوى ، ولو أنه أمعن النظر وتريث : ربما غلب إيمانه شهوته ، وحال بينه وبين المعصية ، لكن الشهوة أعمته ، والشهوة قد تعمي وتصم ، فلا يسمع نصيحة ، ولا يرعوي ، فيهجم على المعصية فيستزله الشيطان ، قال تعالى : (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم). آل عمران/ 155 .

 فإذا حصل الاستزلال من الشيطان ، فزلت قدم العبد ، لكن في قرارة قلبه الاعتراف بالمعصية ، والله يعلم أنه لما وقع في المعصية أنه نادم ، وأنه كاره لها ، حتى إن بعضهم يفعل المعصية وهو في قرارة قلبه يتمنى أنه مات قبل أن يفعلها : فهذا معظم لله عز وجل ، ولكنه لم يرزق من الإيمان ما يحول بينه وبين المعصية.

 وقد يكون سبب ابتلاء الله له أنه عير أحدا ، أو أنه عق والدا ، أو قطع رحمه ، فحجب الله عنه رحمته ، أو آذى عالما ، أو وقع في أذية ولي من أولياء الله ، فآذنه الله بحرب ، فأصبح حاله حال المخذول ، مع أنه في قرارة قلبه لا يرضى بهذا الشيء ...فالذي يعصي في السر على مراتب : منهم من يعصي مع وجود الاستخفاف ، فبعض العصاة تجده لما يأتي إلى معصية لا يراه فيها أحد : يذهب الزاجر عنه ، ويمارسها بكل تهكم ، وبكل وقاحة ، وبكل سخرية ، ويقول كلمات ، ويفعل أفعالا ، ولربما نصحه الناصح ، فيرد عليه بكلمات كلها وقاحة ، وإذا به يستخف بعظمة الله عز وجل ، ودينه ، وشرعه ، لكنه إذا خرج إلى الظاهر صلى ، وصام ، وإذا خلا بالمعصية لا يرجو لله وقارا - والعياذ بالله - فليس هذا مثل من يضعف أمام شهوة ، أو يفتن بفتنة يراها ، ويحس أن فيها بلاء ، وشقاء ، ويقدم عليها ، وقلبه يتمعر من داخله ، ويتألم من قرارة قلبه ، ثم إذا أصاب المعصية ندم ... فهذا الحديث - أي : حديث ثوبان - ليس على إطلاقه ، وإنما المراد به : من كانت عنده الجرأة - والعياذ بالله - ، والاستخفاف بحدود الله".  انتهى من " شرح زاد المستقنع " (الدرس رقم: 332) .

فهذا فيما يتعلق بمن أسر معصية وأحوال المسرين لها والجمع بين الحديثين .

وأما المجاهرة بالمعصية فإن كانت من الكبائر فصاحبها إن لم يتب منها فهو في مشيئة الله إن شاء غفر له ابتداء بلا عذاب ولا عقاب، وإن شاء عاقبه على قدر ذنبه ثم يدخل الجنة بعد ذلك، والمجاهر بالمعصية أقرب إلى المؤاخذة بالذنب منه إلى العفو كما في حديث المجاهرة السابق، وقد سبق توضيح هذا في الفتوى رقم: 60887، فراجعها.

وإن كانت المعصية من الصغائر فهناك أنواع كثيرة من الأعمال تكفرها كصيام رمضان والصلوات الخمس وغيرها مما ورد في الكتاب والسنة، وكقوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما. {النساء:31}.

قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره: وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخلا كريما كثير الخير وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اهـ .

وسبق إيضاح معنى الحديثين اللذين في السؤال وبيان وجه الجمع بينهما في الفتاوى التالية أرقامها فراجعها: 9268، 56550، 93737، 116839، 120463.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات