هل يلزم المسلم تتبع ملل الضلال ودراستها ليزداد يقينا في صحة الإسلام

0 458

السؤال

مسألة العلم بالباطل التي قالها شيخ الإسلام وابن القيم: من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه فقد تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل ممن لم يعرف الخير والشر ويذقهما كما ذاقهما.. ولهذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي، ولهذا يوجد من ذاق الفقر والمرض والخوف أحرص على الغنى والصحة والأمن ممن لم يذق ذلك... وليس المراد أن كل من ذاق طعم الكفر والمعاصي يكون أعلم بذلك وأكره له ممن لم يذقه مطلقا، فإن هذا ليس بمطرد، بل قد يكون الطبيب أعلم بالأمراض من المرضى. والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أطباء الأديان، فهم أعلم الناس بما يصلح القلوب ويفسدها، وإن كان أحدهم لم يذق من الشر ما ذاقه الناس، ولكن المراد أن من الناس من يحصل له بذوقه الشر من المعرفة به، والنفور عنه، والمحبة للخير إذا ذاقه ما لا يحصل لبعض الناس، مثل من كان مشركا أو يهوديا أو نصرانيا، وقد عرف ما في الكفر من الشبهات والأقوال الفاسدة والظلمة والشر، ثم شرح الله صدره للإسلام، وعرفه محاسن الإسلام، فإنه قد يكون أرغب فيه، وأكره للكفر من بعض من لم يعرف حقيقة الكفر والإسلام، بل هو معرض عن بعض حقيقة هذا وحقيقة هذا، أو مقلد في مدح هذا وذم هذا.... وكل من كان أعرف بفساد الباطل كان أعرف بصحة الحق، وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ـ وقال ابن القيم:... فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة، وبهذا برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الظلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم... فالإشكال الذي عندي هو: أن الباطل يتعدد وطرقه كثيرة، فهل كان الصحابة يعلمون كل طرق الباطل؟ أم إنهم كانوا في جاهليتهم فقط فلم يكونوا يعلمون كل جاهلية كجاهلية المجتمعات غير العربية؟ وهل ليبلغ المرء الكمال الممكن في هذا الباب يعلم كل أوجه الباطل المتاحة من الديانات والأفكار المنتشرة في بقاع الأرض، حتى ما كان في أقطار بعيدة من ديانات وأفكار ما أنزل الله بها من سلطان؟ اليقين بكفر اليهود والنصارى وباطلهم يزداد على اليقين الواجب بتعلم كفرهم من كتبهم؟ أم يكتفى بتفصيلات القرآن والسنة التي أبانت عن سبيلهم وضلالهم؟ وهل كان السلف يتعلمون كتب أهل الكتاب لهذا الغرض، وهذا هو محل السؤال؟ فهل الأمر متعلق بالمعرفة من حيث استبانة أمرهم وسبيله؟ أم متعلق باليقين الزائد إلى درجة الكمال؟ وزيادة في بيان محل إشكالي: هل المطلوب مني حتى أكمل اعتقادي ويستقيم علي أن أدرس عقائد وأفكار وممل ونحل الغرب والشرق حتى أكون على بينة من أمري؟ والمؤمن الذي ولد مسلما ووجد في التوحيد والعقيدة الإسلامية ما لا يرفضه عقل من جمال وصفاء وتعظيم للرب العلي الكبير خصوصا وأننا ـ والحمد لله ـ على عقيدة السلف؟ وهل يلزمه حتى يسير إلى محاكاة ومشابهة عقيدة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ أن يلقي بنفسه في مستنقعات ملل الكفر والفسوق ليشعر بتمام الإسلام وكماله؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في أن معرفة فساد الباطل تزيد المؤمن يقينا في صحة الحق الذي جاء به الإسلام، ولكن هذا لا يعني أن يتتبع المسلم ملل الضلال ونحله ليقف على الحقيقة تفصيلا! فقد كفانا ذلك القرآن والسنة، حيث يجد فيهما المسلم بيانا شافيا للحق وتزيينا له وترغيبا فيه، وبيانا كافيا للباطل وشينا له وترغيبا عنه، وحسبك في ذلك الآية التي ذكرتها في سؤالك وهي قوله تعالى: وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين {الأنعام 55}.

قال القرطبي: التفصيل: التبيين الذي تظهر به المعاني، والمعنى، وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نفصل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.. اهـ.
وقال السعدي: وكذلك نفصل الآيات ـ أي: نوضحها ونبينها، ونميز بين طريق الهدى من الضلال، والغي والرشاد ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبين الحق الذي ينبغي سلوكه: ولتستبين سبيل المجرمين ـ الموصلة إلى سخط الله وعذابه فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت، أمكن اجتنابها، والبعد منها، بخلاف ما لو كانت مشتبهة ملتبسة، فإنه لا يحصل هذا المقصود الجليل. اهـ.

وحسبنا في هذا المعنى ما نقل السائل بعضه عن ابن القيم، حيث ذكر قاعدة جليلة في كتاب الفوائد صدرها بهذه الآية وبقوله تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ـ ثم قال: والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة وأعمال هؤلاء، وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء، والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام، فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان، كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة... اهـ.

ولذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه الذين ولد لهم أبناء في الإسلام، أن يعلموا أولادهم أمور الجاهلية وتفاصيلها كما عاشوها، بل كانوا يعلمونهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهما عرفوا الحق من الباطل، وتبين لهم الهدى من الضلال، والرشد من الغي، ولذلك تجد في الكتب المصنفة في التوحيد بيانا للشرك وأنواعه، والكفر ومراتبه، وأدلة ذلك إنما تكون من الكتاب والسنة، ولذلك لما أشار ابن القيم في مدارج السالكين إلى المعنى الذي ذكره السائل قال قبله: وقد قطع الله تعالى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعا، قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا أو شفيعا، فهو كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، فقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له {سبأ: 22ـ 23} فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع، إما مالك لما يريده عباده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده، فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مترتبا، متنقلا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورا، وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك وموداه لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنونه في نوع وفي قوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. اهـ.

ولذلك نقول: إن الإشكال الحاصل والانحراف الموجود في أهل الإسلام ليس سببه عدم العلم بحال أهل الباطل وملل الضلال، وإنما سببه هجر القرآن والسنة، والإعراض عن تدبر ما فيهما من العلم النافع! وأما تفاصيل الضلال وفروع الباطل، والاطلاع على حقائق مسائله من مصادره، فهذه يحتاج إليه بعض الخاصة من أهل العلم، الذين تضلعوا من علوم الوحي، واستنارت به قلوبهم، واحتاجوا إلى محاجة المبطلين وبيان فساد سبلهم.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة