حكم تراخي القبض في الصرف في مجلس العقد

0 94

السؤال

جاء رجل ليصرف نقودا معدنية كثيرة بعملة أخرى ورقية من جنس آخر، فوضع النقود المعدنية، وبدأت أعدها، وقلت له: لا تخرج من المحل لحين انتهاء الصرف، وضيفته بقهوة، وعندما كنت أعد النقود المعدنية، خرج من المحل دون علمي على بعد 4 أمتار ليلقي الفنجان خارجا، ثم عاد، وبعدما عاد، أعطيته ما يستحق من العملة الأخرى، علما أني لم أعطه من العملة الورقية شيئا، ولم أتصرف بنقوده إلى أن عاد، وإنما قمت بعدها فقط، ولم أنه العد إلى أن عاد، فهل وقعت في ربا النسيئة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:

فلا يخفى أن مجرد أخذ النقود المعدنية لعدها، ليس هو الإيجاب والقبول الموجبين لعقد الصرف، والتقابض إنما يلزم مع إبرام عقد الصرف بالإيجاب والقبول، وأما العد ونحوه، فهو مما يتقدم على العقد.

وعلى ذلك؛ فالتقابض حاصل بعد عودة هذا الرجل إلى المحل، وانتهاء السائل من عد النقود، حيث يجري ساعتها العقد بالإيجاب والقبول والتقابض ...

وعلى افتراض أن الرجل دفع النقود للسائل موجبا للعقد، فإن السائل لم يقبل هذا الإيجاب، بدليل حرصه على تحقيق شرط التقابض ...

ولو افترضنا أن السائل أخذ النقود قابلا للعقد، فإن قبضه للنقود لا يتم إلا بإتمام عدها، وهذا لم يحصل، كما يدل عليه قول السائل: (ولم أنه العد إلى أن عاد).

والموزونات، والمعدودات، ونحوهما، لا تقبض إلا باستيفاء قدرها وزنا أو عدا، عند جمهور الفقهاء، جاء في الموسوعة الفقهية: أما المنقول، فقد ذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى: أن قبض المكيل والموزون والمعدود باستيفاء الكيل، أو الوزن، أو العد .. اهـ. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى؛ فإن جمهور الفقهاء لا يشترطون الفورية في التقابض، بل المعتبر عندهم هو التفرق من مجلس العقد، فإن تفرق المتصارفان من المجلس وليس بينهما شيء، فقد تحقق التقابض، وإن تراخى ذلك وطالت مدته، خلافا للمالكية، فيشترطون الفور في التقابض، ودليل الجمهور حديث مالك بن أوس أنه التمس صرفا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع ذلك، فقال: والله، لا تفارقه حتى تأخذ منه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء ... رواه البخاري ومسلم.

قال ابن عبد البر في التمهيد: اختلف العلماء في حد قبض الصرف وحقيقته، فقال ابن القاسم عن مالك: لا يصح الصرف إلا يدا بيد، فإن لم ينتقده، ومكث معه من غدوة إلى ضحوة قاعدا، وقد تصارفا غدوة فتقابضا ضحوة، لم يصح هذا، ولا يكون الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام، ولو انتقلا من ذلك المكان إلى موضع غيره، لم يصح تقابضهما. هذا كله قول مالك، وجملة مذهبه في ذلك أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس أو تفرقا. ومحل قول عمر عنده: "والله، لا تفارقه حتى تأخذ منه": أن ذلك على الفور لا على التراخي، وهو المعقول من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاء وهاء" عنده، والله أعلم.

وقال أبو حنيفة، والشافعي: يجوزالتقابض في الصرف ما لم يفترقا، وإن طالت المدة، وانتقلا إلى موضع آخر، واحتجوا بقول عمر: "والله، لا تفارقه حتى تأخذ"، وجعلوه تفسيرا لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: "الذهب بالورق ربا، إلا هاء وهاء"، واحتجوا بقوله أيضا: "وإن استنظرك إلى أن يلج بيته، فلا تنظره" قالوا: فعلم من قوله هذا أن المراعى الافتراق. اهـ.

وقال ابن الملقن في التوضيح: قول عمر: (والله، لا تفارقه حتى تأخذ منه)، ظاهره أن التراخي في المجلس لا يضر في الصرف، وهو قول الشافعي، خلافا لمالك، عملا بقوله: "إلا هاء وهاء، ويدا بيد". اهـ.

وقال الخطابي في أعلام الحديث: كان الظاهر من قوله: "هاء وهاء" يوجب أن يكون التقابض يدا بيد في وقت واحد، إلا أن عمر -رضي الله عنه- قد بين المراد بذلك، فجعل التقابض إذا وقع في المجلس قبل أن يفارقه، بمنزلة لو أعطى بيد وأخذ بأخرى. اهـ.

وقال ابن الأثير في شرح مسند الشافعي: إذا تصارفا، فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما، ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليقبضه العوض؛ لأنهما لم يتفرقا، فأما إن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا؛ فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، وإلا كان ربا. اهـ.

ثم من ناحية ثالثة؛ فخروج هذا الرجل من المحل على بعد 4 أمتار ليلقي الفنجان خارجا، قد لا يؤثر في تفرق المجلس أصلا، باعتبار القرب، كما هو مذهب أبي حنيفة، قال القاضي عياض في إكمال المعلم: قال أبو حنيفة: تجوز إذا تقابضا بالقرب وإن افترقا، وأما مالك، والشافعي، والليث، والجمهور، فيجيزون التقابض في ذلك في المجلس، مثل الصرف، إلا أن الشافعي يجزئ في ذلك على مذهبه في الصرف ما لم يفترقا. اهـ.

والخلاصة: أن السائل لم يقع في ربا النسيئة، بما ذكره في سؤاله.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة