معنى الحديثين: "وَأَهْلُ النَّارِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ.." و"إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً تَنْطِقُ عَلَى ألسنة.."

0 5

السؤال

هل يجوز الاغتياب الجماعي، بأن يغتاب كل أهل الحي شخصا واحدا؟ وما توجيه حديث: "أهل النار من ملأ الله أذنيه من ثناء الناس شرا، وهو يسمع"، وحديث: "إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من خير وشر"، مع أن الله حرم السب والغيبة في آيات من القرآن؟ وهل هذان الحديثان محمولان على من جاهر بالمعاصي دون غيره؟ وما نصيحتكم لشخص قد ذهب عنه الفرح والسرور، وصاحبه الغم والحزن؛ لكثرة أذية الناس له بالقول والفعل؟ أيحتسب الأجر من الله، ويرى أن الله قد أراد به خيرا حين عجل عقوبته في الدنيا، وأن كل ما يؤذيه، فالله يجزيه به، أم يعزي نفسه على أنه حق عليه الحديث المتقدم، وحديث: "إن الله إذا كره عبدا، نادى جبريل: إني كرهت فلانا، فأبغضوه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فجوابنا عن سؤالك، يتلخص فيما يلي:

أولا: الغيبة محرمة شرعا، سواء اغتاب واحد شخصا واحدا، أو اغتاب جماعة شخصا واحدا، فالكل محرم، وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة بقوله: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته رواه مسلم عن أبي هريرة.

قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه: الأذكار: فأما الغيبة: فهي ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، وحركته، وبشاشته، وخلاعته، وعبوسه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به.

سواء ذكرته بلفظك، أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك...

إلى أن يقول: وضابطه: كل ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم، فهو غيبة محرمة. انتهى.

ثانيا: من وقع الناس في غيبته: فإن اغتابوه بما لا يعاب به شرعا؛ فليصبر؛ فإنه يحصد من حسناتهم بغير كد، ولا تعب، وما يصيبه من هم وحزن بسبب تلك الغيبة، فإنه له كفارة -إن شاء الله تعالى-، ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه.

وإن اغتابوه بما يعاب به شرعا من الذنوب والمعاصي والفسق، فليبادر بالتوبة إلى الله تعالى، وليحذر -لا سيما إذا جاهر بالمعصية-؛ فإن من انطلقت ألسن الناس عليه بالشر، فإنه يخشى عليه أن يكون داخلا فيما ورد في الحديث المشار إليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أهل الجنة من ملأ أذنيه من ثناء الناس خيرا، وهو يسمع، وأهل النار من ملأ أذنيه من ثناء الناس شرا، وهو يسمع. رواه ابن ماجه.

والمعنى على ما ذكره الشراح: أي: من ينتشر عنه فعل الشر؛ حتى يثني الناس عليه به، قال الأمير الصنعاني في التنوير: وفيه أنه تعالى يجري على ألسنة العباد ما اتصف به العبد من خير أو شر، ويفيض على أفواههم، وأنه من علامات الخير والشر. انتهى.

ثالثا: جعل العلماء الحديث السابق نظير الحديث الذي في الصحيحين، فيمن أثنى المسلمون عليه بالشر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت"، فقد جاء في السراج المنير شرح الجامع الصغير لعلي بن أحمد بن نور الدين الشهير بالعزيزي: هذا الحديث نظير ما في الصحيحين عن أنس: لما مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال: وجبت. ومر عليه بأخرى، فقال كذلك، ثم قال: أنتم شهداء الله في الأرض، من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا، وجبت له النار. اهــ.

رابعا: وأما الحديث الآخر: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر. رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، والألباني.

فهو في معنى الأحاديث الأخرى الدالة على الاعتداد بثناء المسلمين على المرء بالخير والشر، كحديث: من أثنيتم عليه خيرا، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرا، وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض. متفق عليه، واللفظ لمسلم.

وهذا الحديث: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم. يذكر في شروح حديث: أنتم شهداء الله في الأرض.

والمراد بنطق الملائكة، جاء شرحه في التيسير بشرح الجامع الصغير: (إن لله ملائكة في الأرض تنطق على ألسنة بني آدم) أي: كأنها تركب ألسنتها على ألسنتهم، كما في التابع والمتبوع من الجن. اهــ.

خامسا: ما جاء في تلك الأحاديث من ثناء الناس على الشخص بالشر، فإن هذا لا يعد غيبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة حين أثنوا بالشر على ذلك الميت، ويكون هذا من باب غيبة الفاسق المجاهر بالفسق، ولا يدخل في الغيبة المحرمة، قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: أخبر أنه بذلك الثناء الشر، وجبت له النار، وقال: (أنتم شهداء الله في الأرض)، فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر، إذا كان شره مشهورا، وكان مما لا غيبة فيه لشهرة شره. اهــ.

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: من مات منهم، فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير، كان دليلا على أنه من أهل الجنة، سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا؛ فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة، وهذا إلهام يستدل به على تعيينها ... وهذا في جانب الخير واضح ...

وأما جانب الشر، فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر المشار إليها أولا في آخر حديث أنس: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر. واستدل به على جواز ذكر المرء بما فيه من خير أو شر للحاجة، ولا يكون ذلك من الغيبة .. اهــ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات