شرح حديث: إني حرمت الظلم على نفسي...

0 10

السؤال

سؤالي عن إشكالية الحديث: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما ... فالذي يبدو لي من الحديث أن تحريم الظلم فعل اختياري من الله، حرمه على نفسه ولو شاء فعله، كما أنه لو شاء الكلام تكلم، ولو شاء عدمه لم يتكلم. وهذا يتعارض عندي مع عدل الله -تعالى-، فالظلم منه محال، والظلم ممتنع لغيره، فهو لا يظلم لكمال عدله، لا لعجز قدرته.
بمعنى أني أستشكل قول الله: حرمت الظلم على نفسي. لأنه يبدو أن الظلم من الله كان ممكنا قبل تحريمه، وهذا محال، وهذا يتعارض مع كونه ممتنعا لغيره.
أرجو الرد، وتوضيح الإشكال.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فقد سلك العلماء مسالك شتى في هذا الحديث وأشباهه، مما ورد فيه نفي الظلم عن الله -تعالى- فمنهم من قال إن الظلم ممتنع عقلا في حق الرب -تعالى-؛ لأن الظلم هو تصرف الإنسان فيما لا يملك، والكل ملك لله -تعالى- فتصرفه فيه كيف شاء لا يكون ظلما.

ومنهم من نفى خلقه لأفعال العباد؛ ليتوصل بذلك إلى نفي الظلم عنه -تعالى- كما قالت المعتزلة.

وتوسط جماعة من محققي العلماء، فقالوا بأن الظلم جائز عقلا، ولكن الله -تعالى- حرمه على نفسه أزلا؛ لكمال عدله، فهو ممتنع على الله -تعالى- لكونه حرمه على نفسه، لا لعدم قدرته عليه، وهو إنما حرمه على نفسه -تعالى- لاتصافه بصفات الكمال ولتنزهه عن أضدادها، وهي النقائص كلها، ولا شك في أن الظلم مما ينزه الله -تعالى- عنه؛ لكونه من النقائص التي لا تليق به تعالى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد ما رد على الطائفتين المتقابلتين في تفسير الظلم ما عبارته: وقوله تعالى: وما الله يريد ظلما للعباد. يبين أن هذا العقاب لم يكن ظلما؛ لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم. والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرا عليها، فعلم أن الله قادر على ما نزه نفسه عنه من الظلم، وأنه لا يفعله. وبذلك يصح قوله: إني حرمت الظلم على نفسي، وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنع لذاته، فلا يصلح أن يقال: حرمت على نفسي، أو منعت نفسي من خلق مثلي، أو جعل المخلوقات خالقة ونحو ذلك من المحالات.

وأكثر ما يقال في تأويل ذلك، ما يكون معناه: إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورا لا يكون مني، وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الرب، وأنه يجب تنزيه الله ورسوله عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله، إذ هو مع كونه شبه التكرير، وإيضاح الواضح، ليس فيه مدح ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمع، فعلم أن الذي حرمه على نفسه هو أمر مقدور لكنه لا يفعله؛ لأنه حرمه على نفسه، وهو -سبحانه- منزه عن فعله، مقدس عنه.

يبين ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك، كقول بعضهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كقولهم: من أشبه أباه فما ظلم، أي: فما وضع الشبه غير موضعه، ومعلوم أن الله -سبحانه- حكم عدل، لا يضع الأشياء إلا مواضعها. ووضعها غير مواضعها ليس ممتنعا لذاته، بل هو ممكن، لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه ويبغضه؛ إذ قد حرمه على نفسه....

وبهذا يتبين القول المتوسط: وهو أن الظلم الذي حرمه الله على نفسه، مثل أن يترك حسنات المحسن فلا يجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك من الأفعال التي يتنزه الرب عنها، لقسطه وعدله، وهو قادر عليها، وإنما استحق الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم وهو قادر عليه، وكما أن الله منزه عن صفات النقص والعيب، فهو أيضا منزه عن أفعال النقص والعيب.

وعلى قول الفريق الثاني: ما ثم فعل يجب تنزيه الله عنه أصلا، والكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، يدل على خلاف ذلك. انتهى.

فهذه أقوال الناس في هذا الحديث، وقد بينا لك ما ذهب إليه أهل السنة فيه بما يزيل كل إشكال بحمد الله.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات