السؤال
في سورة الأنعام (الآية 134)، وسورة الذاريات (الآية 5)، ما وجه رسم كلمة "إنما"؟ أي: هل هناك فرق بين وصل "إن" و"ما"، أو فصلهما"؟
في سورة الأنعام (الآية 134)، وسورة الذاريات (الآية 5)، ما وجه رسم كلمة "إنما"؟ أي: هل هناك فرق بين وصل "إن" و"ما"، أو فصلهما"؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ذكر غير واحد من العلماء أن رسم القرآن نوع من أنواع إعجازه، وسر من أسراره، كما قال ابن ما يابى الجكني الشنقيطي في كشف العمى:
والخط فيه معجز للناس وحائد عن مقتضى القياس
لا تهتدي لسره الفحول ولا تحوم حوله العقول
قد خصه الله بتلك المنزله دون جميع الكتب المنزله
ليظهر الإعجاز في المرسوم منه كما في لفظه المنظوم
وما أتى من صور مزيده فيه وحذف أحرف عديده
فكل ذا لعلة مقدره وحكمة عن الورى مخدره ... اهـ.
وقد ذكر بعض العلماء تعليلات لما خالف فيه الرسم القرآني قواعد الرسم الإملائي لا يخلو كثير منها من تكلف لا حاجة إليه، ومن ذلك ما ذكروه من الفرق بين "إنما" في الموضعين المسؤول عنهما، فذكر بعضهم أن الموصول في الوجود يناسبه وصل كلمته في الخط، وأن المفصول في المعنى يناسب أن يفصل في الخط.
قال ابن البناء المراكشي في عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل: اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلمته في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط، كما تفصل كلمة عن كلمة.
فمن ذلك: (إنما) بكسر الهمزة. كله موصول إلا حرف واحد. (إن ما توعدون لآت) فصل حرف التوكيد؛ لأن حرف "ما" يقع على مفصول، فمنه خير موعود به لأهل الخير، ومنه شر موعود به لأهل الشر، فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم.
ومن ذلك: (أنما) بفتح الهمزة كلها موصول إلا حرفان. (وأن ما يدعون من دونه هو الباطل)، (وأن ما يدعون من دونه الباطل)، وقع الفصل عن حرف التوكيد، إذ ليس لدعوى غير الله فعل في الوجود، إنما وصلها في العدم والنفي.
ويدلك عليه قوله تعالى عن المؤمن: (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة). فوصل أنما في النفي، وفصل في الإثبات، لانفصاله عن دعوة الحق. اهـ.
وقال مثل ذلك الزركشي في البرهان في علوم القرآن.
وممن تناول هذه المسألة من المعاصرين الدكتور فاضل السامرائي في محاضرة له بعنوان: "لمسات بيانية" وله كتاب بهذا العنوان أيضا فقال: ما دلالة فصل (إنما) في آية سورة الأنعام: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)، بينما جاءت موصولة في آية سورة الذاريات والمرسلات؟
قال تعالى في سورة الأنعام: (إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين (134)، وقال في سورة الذاريات: (إنما توعدون لصادق (5)، وفي سورة المرسلات: (إنما توعدون لواقع (7).
هذا السؤال عائد إلى خط المصحف (الخط العثماني)، وليس عائدا لأمر نحوي، وحسب القاعدة: خطان لا يقاس عليهما، خط المصحف، وخط العروض. وفي كتابتنا الحالية نفصل (إن) عن (ما) وحقها أن تفصل.
ابتداء يعود الأمر إلى خط المصحف، سواء وصل أم فصل، لكن الملاحظ الغريب في هذه الآيات كأنما نحس أن للفصل والوصل غرض بياني. لو لاحظنا في آية سورة الأنعام: (إن ما توعدون) فصل، وفي الذاريات وصل: (إنما توعدون)، وفي المرسلات وصل: (إنما توعدون)، فلو لاحظنا الآيات نجد أنه تعالى لم يذكر في سورة الأنعام شيئا يتعلق بالآخرة أو متصلا بها، وإنما تكلم بعد الآية -موضع السؤال- عن الدنيا: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون * وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون. ففصل ما يوعدون عن واقع الآخرة، بينما في سورة الذاريات وصل الأمر بأحداث الآخرة: (وإن الدين لواقع).
والكلام في السورة جاء عن أحداث الآخرة، فوصل: (ما توعدون) بأحداث الآخرة، فكأنما الفصل لفصل بين ما يوعدون وأحداث الآخرة، وكذلك في سورة المرسلات دخل في أحداث الآخرة، فلما فصل الأحداث الآخرة عن ما يوعدون فصل: (إن ما)، ولما وصل الأحداث مع ما يوعدون وصل: (إنما). اهـ.
وللفائدة راجع الفتوى: 484588.
والله أعلم.