إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
وأما النافي له ، فاختلفوا في ذلك على مذاهب .

( الأول ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل على النفي .

نقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ، ونقله ابن القطان على أكثر أصحاب الشافعي ، وجزم به القفال والصيرفي .

وقال الماوردي : إنه مذهب الشافعي ، وجمهور الفقهاء والمتكلمين .

[ ص: 701 ] وقال القاضي في التقريب : إنه الصحيح ، وبه قال الجمهور ، قالوا : لأنه مدع ، والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ولقوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين في جواب قوله : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ولا يخفاك أن الاستدلال بهذه الأدلة واقع في غير موضعه ، فإن النافي غير مدع ، بل قائم مقام المنع ، متمسك بالبراءة الأصلية ، ولا هو مكذب بما لم يحط بعلمه ، بل واقف حتى يأتيه الدليل وتضطره الحجة إلى العمل .

وأما قوله تعالى : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فهو نصب للدليل في غير موضعه ، فإنه إنما طلب منهم البرهان ; لادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى .

( المذهب الثاني ) : أنه لا يحتاج إلى إقامة دليل ، وإليه ذهب أهل الظاهر ، إلا ابن حزم ، فإنه رجح المذهب الأول .

قالوا : لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم ، فمن نفى الحكم ، له أن يكتفي بالاستصحاب ، وهذا المذهب قوي جدا .

فإن النافي عهدته أن يطلب الحجة من المثبت حتى يصير إليها ، ويكفيه في عدم إيجاب الدليل عليه التمسك بالبراءة الأصلية ، فإنه لا ينقل عنها إلا دليل يصلح للنقل .

( المذهب الثالث ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في النفي العقلي ، دون الشرعي ، حكاه القاضي في التقريب وابن فورك .

( المذهب الرابع ) : أنه يحتاج إلى إقامة الدليل في غير الضروري ، بخلاف الضروري ، وهذا اختاره الغزالي ولا وجه له ، فإن الضروري يستغنى بكونه ضروريا ، ولا يخالفه مخالف إلا على جهة الغلط ، أو اعتراض الشبهة ، ويرتفع عنه ذلك ببيان ضروريته : ، وليس النزاع إلا في الضروري .

( المذهب الخامس ) : أن النافي إن كان شاكا في نفيه لم يحتج إلى دليل ، وإن كان نافيا له عن معرفة احتاج إلى ذلك إن كانت تلك المعرفة استدلالية ، لا إن كانت ضرورية ، [ ص: 702 ] فلا نزاع في الضروريات . كذا قال القاضي عبد الوهاب في الملخص ولا وجه له ، فإن النافي عن معرفة يكفيه تكليف المثبت بإقامة الدليل ، حتى يعمل به ، أو يرده ; لأنه هو الذي جاء بحكم يدعي أنه واجب عليه ، وعلى خصمه ، وعلى غيرهما .

( المذهب السادس ) : أن النافي إن نفى العلم عن نفسه فقال : لا أعلم ثبوت هذا الحكم ، فلا يلزمه الدليل ، وإن نفاه مطلقا احتاج إلى الدليل ; لأن نفي الحكم حكم ، كما أن الإثبات حكم .

قال ابن برهان في الأوسط : وهذا التفصيل هو الحق انتهى .

( قلت ) : بل الحق هو ما قدمناه .

( المذهب السابع ) : أنه إن ادعى لنفسه علما بالنفي احتاج إلى الدليل ، وإلا فلا .

هكذا ذكر هذا المذهب بعض أهل الجدل ، واختاره المطرزي ، وهو قريب من المذهب الخامس .

( المذهب الثامن ) : أنه إذا قال لم أجد فيه دليلا بعد الفحص عنه ، وكان من أهل الاجتهاد لم يحتج إلى دليل ، وإلا احتاج ، هكذا قال ابن فورك .

( المذهب التاسع ) : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد .

ولا وجه له ، فإن النفي ليس بحجة موجبة على جميع الأقوال ، وإنما النزاع في كونه يحتاج إلى الاستدلال على النفي ، فيطالب به مطالبة مقبولة في المناظرة أم لا .

واختلفوا إذا قال العالم : بحثت وفحصت ، فلم أجد دليلا ، هل يقبل منه ذلك ، ويكون عدم الوجدان دليلا له ، فقال البيضاوي : يقبل ; لأنه يغلب ظن عدمه .

وقال ابن برهان في الأوسط : إن صدر هذا عن المجتهد في باب الاجتهاد والفتوى قبل منه ، ولا يقبل منه في المناظرة ; لأن قوله بحثت فلم أظفر يصلح أن يكون عذرا ، فيما بينه وبين الله ، أما انتهاضه في حق خصمه فلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية