إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

صفحة جزء
[ ص: 703 ] الذريعة : هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ، ويتوصل بها إلى فعل المحظور .

قال الباجي ذهب مالك إلى المنع من الذرائع .

وقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يجوز منعها .

استدل المانع بمثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقوله : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر وما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها .

وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .

وقوله : الحلال بين والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهات ، والمؤمنون وقافون عند الشبهات .

[ ص: 704 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من حام حول الحمى يوشك أن يواقعه .

قال القرطبي : سد الذرائع ذهب إليه مالك وأصحابه ، وخالفه أكثر الناس تأصيلا ، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلا ، ثم قرر موضع الخلاف فقال : اعلم أن ما يفضي إلى الوقوع ( في المحظور إما أن يلزم منه الوقوع ) قطعا أو لا ، الأول ليس في هذا الباب ، بل من باب ما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ، ففعله حرام من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .

والذي لا يلزم ، إما أن يفضي إلى المحظور غالبا ، أو ينفك عنه غالبا ، أو يتساوى الأمران ، وهو المسمى بالذرائع عندنا ، فالأول لا بد من مراعاته ، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه ، فمنهم من يراعيه ، ( ومنهم من لا يراعيه ) . وربما يسميه التهمة البعيدة ، والذرائع الضعيفة .

قال القرافي : مالك لم ينفرد بذلك ، بل كل أحد يقول بها ، ولا خصوصية للمالكية بها ، إلا من حيث زيادتهم فيها .

قال : فإن من الذرائع ما هو معتبر بالإجماع ، كالمنع من حفر الآبار في طريق المسلمين ، وإلقاء السم في طعامهم ، وسب الأصنام عند من يعلم من حاله أنه يسب الله .

ومنها ما هو ملغى إجماعا ، كزراعة العنب ، فإنها لا تمنع خشية الخمر ، وإن كانت وسيلة إلى المحرم .

ومنها ما هو مختلف فيه ، كبيوع الآجال ، فنحن نعتبر الذريعة فيها ، وخالفنا غيرنا في أصل القضية ، أنا قلنا بسد الذرائع ، أكثر من غيرنا ، لا أنها خاصة بنا .

قال : وبهذا تعلم بطلان استدلال أصحابنا على الشافعية في هذه المسألة بقوله تعالى : ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله وقوله : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقد ذمهم بكونهم تذرعوا للصيد يوم السبت المحرم عليهم ، لحبس الصيد يوم الجمعة .

[ ص: 705 ] وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم الحديث . وبالإجماع على جواز البيع والسلف مفترقين ، وتحريمهما مجتمعين للذريعة إلى الربا ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : لا تقبل شهادة خصم وظنين خشية الشهادة بالباطل ، ومنع شهادة الآباء للأبناء . قال : وإنما قلنا إن هذه الأدلة لا تفيد في محل النزاع ; لأنها تدل على اعتبار الشرع سد الذرائع في الجملة ، وهذا أمر مجمع عليه ، وإنما النزاع في ذريعة خاصة ، وهو بيوع الآجال ونحوها ، فينبغي أن يذكروا أدلة خاصة بمحل النزاع ، وإن قصدوا القياس على هذه الذرائع المجمع عليها ، فينبغي أن تكون حجتهم القياس ، وحينئذ فليذكروا الجامع ، حتى يتعرض الخصم لدفعه بالفارق ، وهم لا يعتقدون أن دليلهم القياس .

قال : بل من أدلة محل النزاع حديث زيد بن أرقم أن أمة قالت لعائشة : إني بعت منه عبدا بثمانمائة إلى العطاء ، واشتريته منه نقدا بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما اشتريت وأخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا أن يتوب .

[ ص: 706 ] قال أبو الوليد بن رشد : وهذه المبايعة كانت بين أم ولد زيد بن أرقم ومولاها قبل العتق ، فيخرج قول عائشة على تحريم الربا بين السيد وعبده ، مع القول بتحريم هذه الذرائع ، ولعل زيدا لا يعتقد تحريم الربا بين السيد وعبده .

قال الزركشي : وأجاب أصحابنا عن ذلك بأن عائشة إنما قالت ذلك باجتهادها ، واجتهاد واحد من الصحابة لا يكون حجة على الآخر بالإجماع ، ثم قولها معارض بفعل زيد بن أرقم ، ثم إنها أنكرت ذلك ; لفساد التعيين ، فإن الأول فاسد بجهالة الأجل ، فإن وقت العطاء غير معلوم ، والثاني بناء على الأول فيكون فاسدا .

قال ابن الرفعة : الذريعة ثلاثة أقسام :

( أحدها ) : ما يقطع بتوصيله إلى الحرام ، فهو حرام عندنا وعندهم ، يعني عند الشافعية والمالكية .

( والثاني ) : ما يقطع بأنه لا يوصل ، ولكن اختلط بما يوصل ، فكان من الاحتياط سد الباب ، وإلحاق الصورة النادرة ، التي قطع بأنها لا توصل إلى الحرام بالغالب منها الموصل إليه ، وهذا غلو في القول بسد الذرائع .

( والثالث ) : ما يحتمل ويحتمل ، وفيه مراتب متفاوتة ويختلف الترجيح عندهم بسبب تفاوتها .

قال : ونحن نخالفهم ( في جميعها ) إلا القسم الأول ; لانضباطه وقيام الدليل عليه انتهى .

ومن أحسن ما يستدل به على هذا الباب ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ألا وإن حمى الله معاصيه ، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه وهو حديث صحيح .

ويلحق به ما قدمنا ذكره من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وهو حديث صحيح أيضا ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : الإثم ما [ ص: 707 ] حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع عليه الناس وهو حديث حسن ، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وهو حديث حسن أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية