الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وأما المعقول ; فمن أربعة أوجه :

الأول : أن إجماعهم ربما كان عن اجتهاد وظن ، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده ، وإلا كان الاجتهاد مانعا من الاجتهاد وهو ممتنع ، وذلك لأن العادة جارية بأن الرأي والنظر عند المراجعة وتكرر النظر يكون أوضح وأصح .

ويدل عليه قوله تعالى : ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، جعلوا بادي الرأي ذما وطعنا فلا يجوز أن يكون محكما على الرأي الثاني .

الوجه الثاني : أنه لو لم تعتبر المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف لهم في عصرهم بموته ; لأن من بقي بعده كل الأمة ، وذلك خلاف الإجماع .

[ ص: 259 ] الوجه الثالث أن قول الجماعة لا يزيد على قول النبي عليه السلام ، ووفاة النبي شرط في استقرار الحجة فيما يقوله ، فاشتراط ذاك في استقرار قول الجماعة أولى .

الوجه الرابع : أنه لو لم يشترط انقراض العصر وإلا فبتقدير أن يتذكر واحد منهم أو جماعة منهم أو جملتهم حديثا عن رسول الله على خلاف إجماعهم ، فإن جاز رجوعهم إليه كان الإجماع الأول خطأ ، وإن لم يجز الرجوع كان استمرارهم على الحكم مع ظهور دليل يناقضه ، وهو أيضا خطأ ولا مخلص منه إلا باشتراط انقراض العصر .

والجواب عن الآية من وجهين :

الأول : أنه لا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء على الناس وحجة على غيرهم امتناع كون أقوالهم حجة على أنفسهم إلا بطريق المفهوم ولا حجة فيه على ما يأتي ، بل ربما كان قبول قولهم على أنفسهم أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة ، وتكون فائدة التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ولهذا فإنه قد يقبل إقرار المرء على نفسه وإن كان لا تقبل شهادته على غيره .

الثاني : أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه .

وعن الآثار >[1] : أما قول علي فليس فيه ما يدل على اتفاق الأمة وإلا قال : رأيي ورأي الأمة ، والذي يدل على ذلك أنه قد نقل أن جابر بن عبد الله كان يرى جواز بيعهن في زمن عمر ومع مخالفته فلا إجماع ، وقول السلماني ليس فيه أيضا ما يدل على اتفاق الجماعة على ذلك ; لأنه يحتمل أنه أراد به : رأيك مع رأي الجماعة ، ويحتمل أنه أراد به : رأيك في زمن الجماعة والإلفة والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة وتشتيت الكلمة ، نفيا للتهمة عن علي في تطرقها إليه في [ ص: 260 ] مخالفة الشيخين ، وبتقدير أن يكون علي قد خالف بعد انعقاد الإجماع فلعله كان ممن يرى اشتراط انقراض العصر ، ولا حجة في قول الواحد في محل النزاع .

وأما قضية التسوية فلا نسلم أن عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه خالف أبا بكر في ذلك في زمانه ، وقال له : أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرها ، فقال أبو بكر : إنما عملوا لله وإنما أجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ .

ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر ، وإنما فضل في زمانه وعود الأمر إليه >[2] ; لأنه كان مصرا على المخالفة .

وأما حده للشارب ثمانين ، فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ، ونحن نقول بجواز ذلك ; لكونه كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة .

وعن الحجة الأولى من المعقول ، أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعيا .

وأما إذا صار قطعيا فيمتنع العود عنه وتركه بالاجتهاد الظني ، وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد الظني .

وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب المخالف بموته ، وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال : إنما >[3] لم يبطل مذهبه ولا ينعقد الإجماع بعده ; لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميت ، فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق .

وعن الثالثة : بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب .

وذلك إنما هو بالوحي القاطع ، ورفع القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد .

وعن الرابعة : أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف لإجماعهم فهو فرض محال ، بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر ، وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى تمام انعقاد الإجماع ، وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على خبر مخالف للإجماع السابق .

التالي السابق


الخدمات العلمية