الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 273 ] المسألة العشرون

إذا استدل أهل العصر في مسألة بدليل ، أو تأولوا تأويلا فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر ؟

لا يخلو إما أن يكون أهل ذلك العصر قد نصوا على إبطال ذلك الدليل وذلك التأويل أو على صحته أو سكتوا عن الأمرين .

فإن كان الأول لم يجز إحداثه لما فيه من تخطئة الأمة فيما أجمعوا عليه ، وإن كان الثاني جاز إحداثه إذ لا تخطئة فيه ، وإن كان الثالث فقد ذهب الجمهور إلى جوازه ومنع منه الأقلون .

والمختار جوازه إلا إذا لزم من ذلك القدح فيما أجمع عليه أهل العصر ، ودليل ذلك أنه إذا لم يلزم منه القدح فيما أجمعوا عليه ، كان ذلك جائزا كما لو لم يسبقه تأويل أو دليل آخر ، ولهذا فإن الناس في كل عصر لم يزالوا يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته ، ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك إجماعا .

فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( سبيل المؤمنين ) ، والدليل والتأويل الثاني ليس هو سبيل المؤمنين .

وأيضا قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ) دل على أنهم يأمرون بكل معروف ; لأنه ذكر المعروف بالألف واللام المستغرقة للجنس ، ولو كان الدليل والتأويل الثاني معروفا لأمروا به وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفا فكان منكرا .

وأما السنة ، فقوله عليه السلام : " أمتي لا تجتمع على الخطأ " ، وقد ذهبوا عن الدليل والتأويل الثاني ، فلا يكون ذهابهم عنه خطأ ، ولو كان دليلا صحيحا أو تأويلا صحيحا لكان الذهاب عنه خطأ وهو محال .

[ ص: 274 ] وأما المعقول فهو أنه >[1] جاز أن يذهب على أهل العصر الأول الدليل الثاني لجاز أن يوحي الله تعالى إلى النبي عليه السلام بدليلين على حكم واحد ، والنبي عليه السلام يشرع الحكم لأحد الدليلين ويذهب عن الآخر وهو ممتنع ، والجواب عن الآية الأولى أن الذم فيها إما أن يكون على ترك العمل بما اتفقوا عليه من إثبات أو نفي ، وإما بسلوك ما لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات .

الأول مسلم ، غير أنه لا تحقق له فيما نحن فيه فإن المحدث للدليل والتأويل الثاني غير تارك لدليل أهل العصر الأول ولا لتأويلهم ، بل غايته ضم دليل إلى دليل وتأويل إلى تأويل ، ولا هو تارك لما نهوا عنه من الدليل والتأويل الثاني ، إذ الكلام فيما إذا لم يكن قد نهوا عنه .

والثاني مما لا سبيل إلى حمل الآية عليه لما فيه من إلحاق الذم بما لا تعرض فيه لإبطال الإجماع لا بنفي ولا إثبات .

وعن الآية الثانية أنها مشتركة الدلالة ، وذلك لأن قوله : ( وتنهون عن المنكر ) يقتضي كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق ، ولو كان الدليل والتأويل الثاني منكرا لنهوا عنه ، ولم ينهوا عنه فلا يكون منكرا .

وعن السنة أن ذهابهم عن الدليل والتأويل الثاني مع صحته إنما يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم .

وعن المعقول أنه قياس من غير جامع صحيح فلا يقبل ، كيف وإنه لا يخلو إما أن يكون مع تعريفه >[2] الحكم الواحد بدليلين قد كلف إثبات الحكم بهما أو بأحدهما ، فإن كان الثاني فلا مانع من إثباته للحكم بأحدهما دون الآخر ، وإن كان الأول فلا يلزم من امتناع إثباته للحكم بأحد الدليلين مع تكليفه إثبات الحكم بهما امتناع إثبات الأمة للحكم بأحد الدليلين دون الآخر إلا أن يكونوا قد كلفوا بذلك ، وهو غير مسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية