الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وإذا عرف معنى الخبر فهو ينقسم ثلاث قسم :

القسمة الأولى : أن الخبر ينقسم إلى صادق وكاذب ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون مطابقا للمخبر به >[1] أو غير مطابق فإن كان الأول فهو الصادق ، وإن كان الثاني فهو الكاذب .

وقال الجاحظ : الخبر ينقسم ثلاثة أقسام : صادق ، وكاذب ، وما ليس بصادق ، ولا كاذب . وقد احتج على ذلك بالنص والمعقول .

أما النص فحكاية القرآن عن الكفار قولهم عن النبي عليه السلام ( أفترى على الله كذبا أم به جنة ) حصروا دعواه النبوة في الكذب والجنة ، وليس إخباره بالنبوة حالة جنونه كذبا لأنهم جعلوها في مقابلة الكذب ، ولا صدقا ، لأنهم لم يعتقدوا صدقه على كل تقدير . فإخباره حالة جنة ليس بصدق ولا كذب .

وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أنه ليس الصادق هو الخبر المطابق للمخبر .

فإن من أخبر بأن زيدا في الدار ، على اعتقاد أنه ليس فيها ، وكان فيها ، فإنه لا يوصف بكونه صادقا ولا يستحق المدح على ذلك ، وإن كان خبره مطابقا للمخبر . ولا يوصف بكونه كاذبا لمطابقة خبره للمخبر . وكذلك ليس الكذب هو عدم مطابقة الخبر للمخبر لوجهين ؛ الأول : أنه كان يلزم منه الكذب في كلام الله ( تعالى ) بتخصيص عموم خبره وتقييد مطلقه لعدم المطابقة ، وهو محال .

الثاني : أنه لو أخبر مخبر أن زيدا في الدار ، على اعتقاد كونه فيها ولم يكن فيها ، [ ص: 11 ] فإنه لا يوصف بكونه كاذبا ؛ ولا يستحق الذم على ذلك . ولا يوصف بكونه صادقا لعدم مطابقة الخبر للمخبر . وإنما الصادق ما طابق المخبر مع اعتقاد المخبر أنه كذلك . والكذب ما لم يطابق المخبر مع اعتقاده أنه كذلك .

الثاني : أنه إذا جاز أن يفرض في الاعتقاد واسطة بين كونه علما أو جهلا ، لا يوصف بكونه علما ، ولا جهلا مركبا ، كاعتقاد العامي المقلد وجود الإله تعالى ، جاز أن يفرض بين الصادق والكاذب خبر ليس بصادق ولا كاذب .

والجواب عن الآية أنهم إنما حصروا أمره بين الكذب والجنة ؛ لأن قصد الدلالة به على مدلوله شرط في كونه خبرا ، والمجنون ليس له قصد صحيح ، فصار كالنائم والساهي ، إذا صدرت منه صيغة الخبر ، فإنه لا يكون خبرا وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلا أن يكون كاذبا ، أو لا يكون ما أتى به خبرا وإن كانت صورته صورة الخبر ، أما أن يكون خبرا وليس صادقا فيه ولا كاذبا ؛ فلا .

وعن الوجه الأول من المعقول : أنا لا نسلم أن من أخبر عن كون زيد في الدار على اعتقاد أنه ليس فيها وهو فيها أن خبره لا يكون صادقا ، وإن كان لا يستحق المدح على الصدق .

وكذلك لا نسلم أن من أخبر بأن زيدا في الدار ، على اعتقاد كونه فيها ، ولم يكن فيها أنه ليس كاذبا ، وإن كان لا يستحق الذم على كذبه ؛ لأن المدح والذم ليس على نفس الصدق والكذب لا غير ، بل على الصدق مع قصده والكذب مع قصده ؛ ولهذا فإن الأمة حاكمة بأن الكافر الذي علم منه اعتقاد بطلان رسالة محمد عليه السلام صادق بإخباره بنبوة محمد لما كان خبره مطابقا للمخبر ، وإن لم يكن معتقدا لذلك ولا قاصدا للصدق ، وحاكمة بكذبه في إخباره أنه ليس برسول ، وإن كان معتقدا لما أخبر به لما كان خبره غير مطابق للمخبر .

وأما تخصيص عموم خبر القرآن وتقييد مطلقه ، فإنما لم يكن كذبا ، وإن لم يكن الخبر محمولا على ظاهره من العموم والإطلاق ؛ لأنه مصروف عن حقيقته إلى مجازه ، وصرف اللفظ عن أحد مدلوليه إلى الآخر لا يكون كذبا ، وسواء كان ذلك اللفظ من قبيل الألفاظ المشتركة أو [ ص: 12 ] المجازية .

ولهذا فإن من أخبر بلفظ مشترك وأراد به بعض مدلولاته دون البعض . كما لو قال : ( رأيت عينا ) وأراد به العين الجارية دون الباصرة ، وبالعكس فإنه لا يعد كاذبا .

وكذلك من أخبر بلفظ هو حقيقة في شيء ومجاز في شيء ، وأراد جهة المجاز دون الحقيقة ؛ فإنه لا يعد كاذبا ، وذلك كما لو قال : ( رأيت أسدا ) وأراد به المحمل المجازي دون الحقيقي ، وهو الإنسان .

وعن الوجه الثاني أنه لا يلزم من انقسام الاعتقاد إلى علم وجهل مركب ، وحالة متوسطة ليست علما ولا جهلا مركبا ، انقسام الخبر إلى صدق وكذب ، وما ليس بصدق ولا كذب ، إذ هو قياس تمثيلي من غير جامع ، ولو كان ذلك كافيا ، لوجب أن يقال إنه أيضا يلزم من ذلك أن يكون بين النفي والإثبات واسطة ، وهو محال .

وبالجملة ، فالنزاع في هذه المسألة لفظي حيث إن أحد الخصمين يطلق اسم الصدق والكذب على ما لا يطلقه الآخر إلا بشرط زائد .

التالي السابق


الخدمات العلمية